السبت، 17 نوفمبر 2012

كيف نُعيد الروح إلى المدرسة المغربية..؟







لا يمكن تحقيق مخرج لأزمة التعليم إلا بتأزيم المقاربات، والوسائل التي استعملت، واستخدمت حتى الآن، وأبانت عن انحباسها، وإفلاسها.
فالعدة متوافرة، والوسائل الموصلة إلى تحقيق ذلك كذلك، والأهداف بينة، ومرسومة، تنتظر من يسعى إليها، ويخطو نحوها من دون دوران، ولا تلكؤ، ولا التفاف. كما أن الأفكار مطروحة في الطريق "كالمعاني" بتعبير الجاحظ، لا يسعها إلا أن تَلْتَمَّ، وَتَنْسَلِكَ في خيط رأي، وطرح، وموقف وإرادة مدعومة بالقابلية والواقعية، والإجرائية.
وبيان ذلك أن الكل يعرف أن الجودة في التعليم الحكومي أي المدرسة العمومية أو التعليم العام، لم تتحقق أبدا، على رغم "الإنشاء" الخطابي، والتجمع الكلامي، والحديث الحواري، و"التنطع" التلفزي، و"الحكمة" المباغتة في المنتديات التعليمية، والمجالس الإدارية للأكاديميات، التي دأب الوزراء على اختلاف ألوانهم وأحزابهم، ومشاربهم، وخلفياتهم، الذين تعاقبوا على حمل وِزْرِ هذه الحقيبة، على تطييبه، وتطويبه، وافترائه، واقترافه من دون أن ترمش أعينهم لحظة، فكأن الكلام الملقى على عواهنه، الكلام غير المسؤول من مسؤول، ذريعة إلى انتفاخ الأوداج، ورفع العقيرة بالصياح، وخبط الطاولة بقبضة اليد الوقحة، إمعانا في تغطية "الفخ" والبهتان المبين، وصرف العيون المشدودة حتى لا تقبض على الكذب متلبسا بالتنصل من الحقيقة، وراكضا في الريح بعد أن غافل الجميع !
كذلك لم تتحقق –أبدا- على أرض الواقع- مدرسة النجاح، وإن تحققت على مستوى الخطابة والأوراق، ولم يستتب ويتبلور بالملوس، ما أسماه الوزراء الأوصياء، بالسلوك المدني، والمواطنة المسؤولة.
استمر الكلام طيلة عقود، وعبر وزارات، وسياسات حزبية دبرت حكوميا الشأن العام بالبلاد، استمر عائما، مُعَوَّما، سائبا، وطافيا على السطح، يصف ما ليس حقيقيا ولا مرئيا ولا متحققا، ويرفع ما لا يتحرك أبدا، ويشيد ما هو محطوم أصلا، ويقدم التقارير تلو التقارير مبرقشة بالأرقام والإحصاءات والمعطيات، والمبيانات والمنخيات والمنحدرات، والمرتفعات المرسومة هندسيا على الأوراق المحولة الكترونيا على الشاشات، بالألوان الزاهية المختلفة التي تخطف الأبصار، ولا تسمن من جوع.
تقارير تتلاعب بالأرقام والنسب و الحساب والأعداد، فيما هي –من دون وعي أو به- في أ حسن الأحوال، تتلاعب بأقدار بلد يبحث عن مخرج من الضائقة، ويسعى إلى أن يضع قدما على أرض صلبة لا رخوة، وتتلاعب بمصائر شعب، ومستقبل جيل. ذلك أن الأرقام المنطوقة والمصورة والمعروضة على أنظارنا عبر شاشات طويلة –عريضة، خرجت من المكاتب المكيفة، أو العطنة الرطبة في النيابات والأكاديميات. ولم تخرج من الميدان في الغالب الأعم.
ما يعني أن المبرمج بعد سنتين أو ثلاث على مستوى البنايات المدرسية، أو الداخليات والمطاعم المدرسية، والمدارس الجماعاتية، مثلا، يدرج في النسبة المعروضة العامة على أساس المنجز والمتحقق الراهن، وهكذا. والنتيجة ما نراه: تَنْسَلِخُ السنون، والسياسات التربوية التعليمية التي رَاهَنَّا فيها على نهضتنا التعليمية، لنخرج من المراوحة، والدوخة، واهتزاز وتلاطم المستجدات والمرجعيات (من الميثاق الوطني إلى البرنامج الاستعجالي)، هي هي، والحال هو الحال، والوضعية هي الوضعية، بل ازدادت سوءا وكارثية باعتبار تزايد أعداد المتمدرسين، وتناقص، واهتراء البنيات المستقبلة القديمة أو هجرانها في انسحاب طوعي أو إرغامي لعوامل ذاتية وموضوعية، من المدارس والمؤسسات التربوية، في ما يسمى بالهدر المدرسي، ومغادرة فضاءات الدرس والتحصيل إلى البؤس والتخلف، وجر البلاد إلى النكوص والعبوس، والإنكفاء والتأخر الفادح في سلم الترتيب، والامتحان حيال، وقياسا ببلدان قفزت إلى الأمام من حيث لم نحتسب، أو من حيث إسهامنا في هذا التأخر من منطلق لَيِّ عنق الحقيقة، وتزيين أرقام ومعطيات إحصائية ما أنزل الله بها من سلطان، بل وتكذبها الوقائع والحقائق في المجال المعاين، والميدان.
رددنا طويلا حتى بُحَّ صوتنا بأن آفة الآفات في بلادنا، والتي تعترض كل تنمية مبتغاة، وكل تقدم منشود، هي آفة الأمية.
وقلنا إن المدخل لتطويقها، وتقليصها، يكمن، بالدرجة الأولى، في النهوض بالتعليم الأَوَّلي الذي هو من مسؤولية الدولة بالأساس أحب من أحب، وكره من كره. وبعدها، يأتي دور الجماعات المحلية بما هي مؤسسات عمومية دستورية، تقوم بتدبير الشأن المحلي اقتصاديا، واجتماعيا، وتعليميا، و بيئيا كما يعرف الجميع. ولا ننسى القطاع الخاص، والتعليم المؤدى عنه في هذا المستوى الذي ينبغي أن توضع بين يديه خارطة طريق تدله على الوعاء العقاري حيث يوجه استثمارته بالمحيط المديني شبه القروي، وبالعالم القروي، مع دعمه، وتقوية حضوره من خلال إقرار تسهيلات منصوص عليها في الاتفاقية –الإطار العام 2007، والتي لم تُفَعَّلْ في غالبية بنودها لاعتبار شد الحبل بين الحكومة، وممثلي القطاع الخاص المدرسي، الاعتبار –إذًا- ينبغي أن يُولَّى لهذه المرحلة ما قبل المدرسية، وهي المرحلة الحاسمة في حياة الطفل –التلميذ مستقبلا، والحاسمة في قطع دابر الأمية.
والعارفون التربويون، وعلماء النفس أعرف بإشارتي هذه. علما أن تعليم الكبار، والاهتمام بالتربية غير النظامية، أولويتان إذا شِيءَ أن نتحدث عن مجتمع منتم إلى زمنه.
أما العناية بالبناء والإحداث، و تأهيل المنجز، وتحصين المكتسب، وحماية المتحقق، وتجهيز المؤسسات التعليمية بالعتاد المكتبي، والعدة البيداغوجية المطلوبة، والتوسيط التكنولوجي، فضرورة قصوى وملحة، كدت أقول.. ضرورة أنطولوجية وتنموية وحاسمة لتمجيد البلاد. ثم لا مناص من الكشف عن عمل الأكاديميات البرمجي، ومخططها الجهوي، بكل شفافية مع المساءلة والمحاسبة في حال التقصير، والتَّبْطِيء، والمراوحة، وتضارب وتناقض المعطيات المسجلة مع الواقع الحي الفاضح.
لا جودة مع ضعف البنيات التربوية، وتدهور بنيات الاستقبال. كل ضعف ونقص، وتدهور، يفضي إلى الإكتظاظ والزحام، ولا يختلف إثنان في أن مقتل المنظومة في استمرار، واستشراء الإكتظاظ والزحام في الصفوف المدرسية والفصول، وقلة الحجرات والأقسام. ما يسمح بالقول بأن الكلام الذي "مُطْرِقْنا" به –طويلا- عن نجاح التربية، ونجاح العملية التعليمية – التعلمية بفضل البيداغوجيات المجلوبة والمتعاقبة، كان كلاما سائبا ولا مسؤولا، فَوَّتَ على المنظومة سنين عددا، في أن تَلتفت إلى ركائزها، وأسانيدها، وآلياتها، وأعماها عما ينبغي لها أن تقوم به من أجل الإنخراط في العصر، وتحقيق التنمية المنشودة التي هي من صنع وصنيع الإنسان المتعلم –المثقف- المفكر- المهندس- الطبيب – المحامي- القاضي- الأستاذ- المقاول- العامل الماهر- الصيدلي- الضابط العسكري- الدركي – الشرطي- الصانع الحاذق.. إلخ.
فإذا أصبحنا –اليوم- نتحدث عن مناضل "القرب"، فالأجدر أن نتحدث عن مسؤولي القرب التربويين، عن إدارة "القرب" الفعلية اليقظة المتتبعة الساهرة المؤرقة حيث النزول يَتْرَى إلى الميدان، والإنصات إلى كل المعلمين والمتعلمين، والآباء، وتتبع أوراش البناء في عين المكان، والإطلاع عن كثب على سير العمليات التربوية، والأيام الدراسية التكوينية، وسير الداخليات، ونوعية وَجْبَاتِها ومَوَاعينها، متى ما استوجبت الحاجة هذا الخروج، والحاجة –كما نعلم- حاضرة وملحاحة في مجال التربية والتكوين، في مجال التعليم تحديدا.
من جهة أخرى، لنشجع الفكر والأدب والفنون بمدارسنا وبالجامعات.
ضَمُرَ وجود شعب لا خَيَال له، وذَبُلَ. وتهافت التواصل اللغوي والثقافي الذي هو ذريعتنا إلى تكريس شخصيتنا الوطنية، ومقوماتنا الحضارية، وهويتنا الثقافية الثرية، وجسرنا إلى مجتمع المعرفة، وانفتاحنا على البلدان والشعوب والثقافات.
فلو لم يكن للأدب دور –كما يهذي البعض- ما اجتهدت مراكز عالمية، ودول صناعية وتكنولوجية متقدمة في تتويج الفكر الإنساني، والأدب شعرا وسردا ودراما من خلال إقامة صالونات ومعارض مبهرة، ومن خلال وضع جائزة "نوبل" رهن إشارة الخيال والإبداع والعلم، وهي أرقى وأرفع الجوائز ماديا ومعنويا ورمزيا.
بالإضافة إلى جوائز أخرى لها صيت عالمي كجائزة سرفانتيس، وبوليتزر- وكونكور- ويوكر- وجائزة الأكاديمية الفرنسية للأدب، وجوائز ترصد لمهرجانات التنافس الموسيقي العالمية وغيرها.
فالأديب كالحقوقي، كالطبيب، كالفيزيائي، كعالم الاقتصاد في شرع "نوبل". كل هؤلاء مِدْمَاكُ، وحجر الزاوية في بناء سؤدد الأمة والمجتمع وجوديا وحضاريا وثقافيا.
بلاد كالمغرب لايعيا مسؤولوها من مديح الهندسة وتمجيد العلوم البحتة ليل –نهار، والتباكي على فقر المغرب في هذا المضمار، وتبخيس قيمة المعارف الأخرى من آداب وعلوم إنسانية، هي بلاد منتكسة، عشواء، صَمّاء، متحجرة لا أفق لها، ولا رابط يربطها بالروح في سموها وعلوها. أما هذا الأفق، أما هذه الروح، فلا يحققها، ولا يبشر بها، وينشرها سوى الفكر والفن والأدب والموسيقا.
لا جدوى من الهندسة وحدها إذا لم تكن اشتراطات المناخ المواتي، والمزاج الثقافي المتوفر اليقظ، والبنية الذهنية المتوقدة، البنية الإسفنجية التي تمتص، وتستوعب، وتلفظ القشور والزؤان و الحالول، بعد أن تُبْقِي اللب، والجوهر، والنُّهَى والحِجَا.
لا فائدة من العلوم والآداب والفنون والموسيقا، في بلاد يمتص قُرَّادُ الأمية دَمَها، ويشرب خفاش التطرف والتواكل والاستنامة ضَرْعَها.
ختاما، أثير الانتباه إلى لغة تعليم الرياضيات والفيزياء، وعلوم الحياة والأرض. آنَ أَنْ نفكر جديا في تقديمها، وتدريسها باللغة الفرنسية أو الإنجليزية، ارتباطا ووصلا منطقيا سلسا بالتعليم العالي. لنكن شجعانا، ولنقطع مع عقود التردد والشك، وإرضاء بعض الأطراف السياسية والدينية المتمسكة ب "قداسة" اللغة العربية. وكان حزب الاستقلال هو من اقترف جريرة تعريب المواد العلمية، بينما أبناؤه، أبناء الذوات، وسليلو البرجوازية "الوطنية" استمروا- إلى يومنا هذا- يتحصلون العلوم باللغة الأجنبية وطنيا بمدارس البعثات، ودوليا بعد نَيْلهم الباكالوريا الفرنسية في الغالب.
لنواجه –إذًا- مشكل تدريس المواد والمساقات العلمية بكل شجاعة، ومسؤولية تاريخية، وإلا وجب علينا، تعريب العلوم في كل أطوار الدراسة بدءا من المستوى الأدنى، وصولا إلى المستوى الأعلى، وفي ذلك ما فيه من انغلاقية، وانكماش، وابتعاد عن العصر، واشتراطات التقدم، والإنفتاح على الكون.
كما يتوجب ربط التعليم في جميع مراحله، وخصوصا المراحل الوسطى والعليا، بالعلوم والمعارف والآداب الإنسانية، والثقافة المغربية "العالمة و"الشعبية". إذ من شأن هذا الربط أن يُوجِدَ لنا ويهيئ تلميذا وطالبا منخرطا في العصر، وتعليما ملبيا لحاجات مجتمع المعرفة، ومطالب السوق، ونداء الغدية والمستقبل.
إشارة :
بعض المختزل هنا مفكك ومفصل في مقالين سابقين لي بعنوان :
أ-سؤال التربية والتعليم.
ب-عودة الروح إلى المدرسة المغربية.
يرجى العودة إليهما للوقوف على إشارات فيهما أوضح وأوفى. 




محمد بودويك 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة