السبت، 10 نوفمبر 2012

فشل نظام تعليم الكفايات في المدرسة التونسية






انطلقت وزارة التربية في تقييم النّظام التّربوي التّونسي بتمويل من اليونساف ومن البنك العالمي فنُظّم تربّص أول قام بتنشيطه[Bureau d Ingénierie enEducation et en formation ] وشاركفيه ممثّلون عن وزارة التربية ومتفقّدون ومساعدون بيداغوجيون ومديرو مدارس حول "برمجة التدخّلات باعتماد الأهداف " وقد خلصت هذه الندوة إلى أن نظامنا التّعلمييتخبّط في عديد المشاكل. وعليه فإن تحدّيات عديدة مطروحة للحدّ من المشاكل المشخّصةفوقع تبني نظام تعليم الكفايات لرفع هذه التحدّيات‼ (راجع الوثيقة المرجعية حولالاستشارة ـ و الخطة التنفيذية)ولتنفيذ برنامج تعليم الكفايات تكفّل البنك العالمي بتمويل هذا المشروع وساهم بخبراء ومستشارين في تكوين الإطار البيداغوجي ومتابعة التنفيذ بمعية المعهد القومي لعلوم التربية سابقا. و قد وقع تحديد مراحل تنفيذ برنامج تعليم الكفايات على النحوالتالي:
ـ 1994 ـ 1995 مرحلة التصوّر خصّصت لوضع برنامج الكفايات الأساسية و عهدت للجنة قيادة سميت بالنواةالصلبة.
ـ 1995 بداية التجربة وقع تجريب هذا النظامعلى 65 مدرسة.
ـ 1996 ـ 1997 توزيع التجربة على كاملالبلاد: مدرستان بكل ولايةـ 1997 ـ 1998 توسيع التجربة لتشمل 10٪ من مجموع المدارس الابتدائية .
ـ 1999 تقييم التجربة والتي أفضت إلى اتخاذ قرار بتعميمها.
ـ 2000 ـ 2001 الانطلاق في تطبيق هذا النّظام بشكل متدرج ولكن معمّم على كل المدارس الابتدائية.
ـ 2007 استكمال التّجربة في السّنوات الستّ الأولى من التّعليم الأساسي.
منذ الانطلاق في التّخطيط لتنفيذ هذا المشروع عملت وزارة التربية على تكوين إطاراتالإشراف البيداغوجي في التّعليم الابتدائي و الإعدادي على هذا النظام من التّعليم فأقامت عديد الملتقيات و الندوات بتأطير خبراء BIEF كما أنجزت سلسة من الحلقات التكوينية في قرطاج (1999) وفي بنزرت و زغوان (2000) وفي المهدية (2001) الخ... وأصدرت عددين من النشرة التربوية حول الكفايات و كذلك أصدرت سنة 1998 سلسلة (1) منمجلة كفايات ثم أصدرت بداية من جانفي 2002 السلسة (2) من نفس المجلة بالإضافة إلىعديد الوثائق الأخرى الموجهة لإطارات التدريس فضلا عن الخطة التنفيذية و القانونالتوجيهي.
كذلك لا بد من أن نشير إلى أن الكفايات أدرجت في القانون التوجيهي وخصت بفصل في الباب السادس المعنون بـ " في مرجعية التعلّمات" وهو فصل 57 ـ ص42 من الوثيقة التي صدر بها هذاالقانون.
وبما أن المشرفين على التعليم قد دأبوا علىفرض السياسات التعليمية أو الإصلاحات من فوق فقد وقع تقديم هذا المشروع في شكلقوانين وتعليمات وقع تنزيلها من فوق إلى من هم تحت لتنفيذها. ولأن المعنيينبالتعليم من أولياء ومعلمين وأساتذة لم يقع تشريكهم فقد لاقى هذا المشروع ومنذالسنوات الأولى لتطبيقه معارضة واسعة منهم ليس فقط على مستوى ما تضمنه من إشكالاتعند تطبيقه بل كذلك على مستوى غاياته وأهدافه.
لذلكسنركز في مقالنا هذا على أهم هذه الإشكاليات لنخلص في الآخر إلى رصد بعض مؤشرات فشلهذا النظام من التعليم بعد أكثر من ثماني سنوات على إرسائه في التعليم الابتدائي. بعض الإشكاليات التي طرحها نظام تعليمالكفاياتالتعليم ليس لاكتساب مهاراتفقطعملية التعليم والتعلّم بصورة عامة أشمل منأن نختزلها في مجرد تعليم كفايات وقد كنا أشرنا في كتابات سابقة إلى طبيعة المشاريعالتعليمية التي كرست منذ 1958 وقلنا أنها أغفلت اعتبار المهم وهو تنمية المجتمعوالإنسان وتبنت مفهوما للتعليم لا يخرج عن كونه وسيلة لتطويع المتعلمين ومزيد ترسيختبعية مجتمعنا على كل الأصعدة. إن تعليم الكفايات الذي يدّعي واضعوه أنه جاء لإصلاحالأنظمة السابقة ولتجاوزها ما هو في الحقيقة إلا مواصلة في نفس النهج. فتعليمالكفايات القائم على مقولة معارف أقل ومهارات أكثر هو تجسيم ملموس لإستراتيجياتالقوى الإمبريالية وهو الطريق الذي سطرته في نطاق عولمة التعليم لتحقيق أهدافهاالهيمنية على حاضر ومستقبل مجتمعنا وبلادنا. إن الغاية من تعليم الكفايات والتيتفصل المعرفة عن العمل والتفكير عن التطبيق والذات عن المجتمع والتي تهدف في الأخيرإلى خلق إنسان "سلعة" مستجيب متقبل مستلب مغترب مستهلك هي غاية في تناقض حاد معالغايات التي يطمح إليها شعبنا ويتطلبها حاضرنا ومستقبلنا.
لماذا معرفة أقل مقابل مهارات أكثر؟الجوابسهل وواضح. 
إن خبراء الأرباح ومنظرو عولمة التعليموشركائهم المحليين ولأنهم يدركون أن المعرفة أداة سلطة وسلاح للتحكم في الحاضروالمستقبل ولأنهم لا يريدون لنا أن نتحكم في حاضرنا وفي مستقبلنا فقد سعوا إلىانتزاع سلاحنا الأكبر هذا منا وتعويضه بسلاح لا يفيد حتى لمواجهة اللحظة [ إزاحةتملك المعارف لصالح تملك المهارات المتوسطة والضعيفة ]. إنها عملية تدمير مبرمجةلقدراتنا على التحكّم في مصيرنا. ولقد نجحوا في تمريرها عبر نظام تعليم الكفاياتوالذي هو النظام الأمثل لتحقيق هذا النزع.
التعليمفي بلاد مثل بلادنا يجب أن يتجه إلى بناء الشخصية وتحقيق الذات بكل أبعادها وإلىتثوير بنى التخلف وإلى تكوين إنسان قادر على التحكم في صنع مصيره. لذلك لابدللتعليم أن يقوم على اكتساب المعارف والعلوم والمهارات معا وعلى الديمقراطية وتكافئالفرص ولابد أن يكون علمانيا ومجانيا. هذه المبادئ العامة ينسفها نظام تعليمالكفايات باختزاله لهدف التعليم في مجرد الحصول على مهارات.إن متعلمينا سواء اليومأثناء تعلمهم أو غدا بعد تخرجهم يمكن أن يتقنوا وبشكل متوسط إجراء عمليات حسابية أوالقيام بتجارب في المخبر أو قراءة خريطة أو تفكيك جدول إحصاء أو التواصل بلغة أخرىغير العربية أو استعمال الحاسوب ولكنهم سيظلون عاجزين عن التجريد وعاجزين عن البحثوالاكتشاف في الفيزياء والكيمياء والإعلامية ولا قدرة فعلية لهم على المقارنةوالاستدلال والاستنتاج وعلى فهم الإشكاليات وحل التناقضات والنقد وبناء المواقفوالتفكير في المستقبل. إن تعليم الكفايات جعل وسيجعل منهم مجرد أدواة تنفيذ وليسذوات فاعلة مكتشفة ومخترعة وباحثة ومطورة وناقدة ومبتكرةوعالمة.
من يضبط الكفايات ـ الكفايات؟إن مسألة من يضبط الكفاية ـ الكفايات موضوعيطرح في الجوهر مشكلة المحتويات و الغايات (محتويات برامج التعليم وغاياته) وهيمسألة تثير بشدّة الأسئلة التالية.
ـ هل يحق لطرفواحد [من هم في السلطة الآن ] أن يحدّدوا ماذا نتعلم؟ ولماذا نتعلم؟ وبالتالي صياغةفكر وشخصية المتعلمين ؟ـ ما هي المقاييس التي عبرهايقع تحديد كفاية أو كفايات؟ـ هل مرجعيتنا في ذلكمجتمعنا وإنسان مجتمعنا أم مجتمعات أخرى و إنسان آخر غير إنسانمجتمعنا؟ـ ارتبطا بواقع مجتمعنا هل نحن بالفعل فيحاجة إلى تعلم مهارات أكثر ومعارف أقل أم أن الأمر لا يعد أن يكون مجرد نقل لمشاريعوقع إملاؤها؟ـ هل بالفعل أصبح مجتمعنا اليوم مجتمعمعرفة حتى يكون تعليمنا من أجل مهارات أكثر ومعارف أقل؟إن الإجابة على هذه الأسئلة لا شك ستجعلنا أكثر قناعة برفض هذا النظام منالتعليم لأنه في تعارض مع ما تطمح إليه الأغلبية لا بل موجه تحديدا ضدّها وضدّ كلرهاناتها على التحكم بمصيرها.
مشكلةالوسائلمشكلة الوسائل في مدرستنا مشكلة مزمنةوقد أثرت سلبا على عملية التعلّم في كل الفترات السابقة وقد ازداد تأثيرها هذا فيالسنوات الأخيرة باقتصار الدولة وفي نطاق تنفيذ تعليم الكفايات على الجانبالبيداغوجي وإهمال ما يتطلبه المشروع من تمويل. لقد إنجر عن ذلك أن ظهر نوعان منالمدارس: 
مدارس يسمونها نموذجية وهي مدارسللمتفوقين جدّا تتوفر فيها الوسائل ويقدّم فيها تعليم معمق ومدارس فقيرة مكتظة لاتتوفر حتى على الحد الأدنى من الوسائل وهي التي يؤمها الغالبية العظمي من المتعلمينمن أبناء الطبقات والفئات الشعبية الفقيرة. إن مثل هذا التوجه دفع وسيدفع أكثر فيالمستقبل الأسر إلى البحث عن تعليم "أجود" ولن يكون أمامهم إلاّ مدارس القطاعالخاص. هذا هو الهدف الذي تريد تحقيقه مدرسة الغد وترمي إليه السلطة ألا وهو فتحالمدرسة للمستثمرين و ما نظام تعليم الكفايات إلا الجسر الذي عبره سيتم تسريع هذاالتوجه. 
مشكلة الفوارق داخل الفصلالواحدتعتبر مشكلة الفوارق بين التلاميذ داخلالفصل الواحد أحد أهم الإشكاليات التي طرحها نظام تعليم الكفايات وأظهرت إلى أي مدىهو عميق التناقض بين الشعارات التي تروجها السلطة حول نجاح منظومة تعليم الكفاياتوحقيقة الأوضاع في مدرستنا. من المعلوم أنه ولتطبيق تعليم الكفايات في فصل مكون منمجموعة من التلاميذ متفاوتي القدرات والذكاء والاستعدادات والميولات والدافعيةومنحدرين من أوساط اجتماعية مختلفة لابد من أن يراعي في تعليمهم مجمل هذه الفروقاتوعليه فعملية التعليم لابد أن تتوجه في نفس الوقت إلى هذا الكمّ المختلف من القدراتمع مراعاة حاجيات كل متعلّم أو مجموعة متعلّمين وذلك من حيث الوضعيات المقترحةللتعلم ومن حيث الزمن المخصص لها ومن حيث التقويم والتدريب والدعم. إن هذا النوع منالتعلم القائم على تعلمات فردية أو على تعلمات داخل مجموعات والذي يتطلبه تعليمالكفايات ومبدأ تكافؤ الفرص ودمقرطة التعليم يفترض توفر الوسائل التعليمية الضروريةوالتمويل اللازم و الفضاءات المناسبة إضافة إلى مرونة البرامج والزمن المدرسي معحرية كاملة للمعلّم في أخذ القرار المناسب بوصفه المسؤول الأول بيداغوجيا على هذاالنوع من التعليم. لن نبالغ إن قلنا أن مدرستنا تفتقر إلى كل هذه الشروط وبالتاليلا مجال للقول أن نظام تعليم الكفايات المطبق في مدارسنا اليوم وبغياب شرط مراعاةالفوارق بين المتعلّمين هو نظام حقّق تكافؤ الفرص أو سوّى في الحظوظ بين المتعلمين . لقد عوض التّعليم الفارقي بشعار تلفيقي هو بيداغوجيا النجاح بحيث أصبح المتعلمينتقل آليا من درجة إلى أخرى ليس على قاعدة تحقيق تعلمات تمكّنه من الارتقاء بل علىقاعدة إزاحة إلى الأعلى دون الاهتمام عموما بالمستوى لأنه أصبح ينظر إلى المتعلم لاعلى اعتبار مستواه وتملكاته بل على اعتبار أنه كلفة مادية وبالتالي أصبح النجاح أيالارتقاء الآلي أحد الشروط الضامنة لتجنب كلفة أكبر. وحتى بعض المحاولات التي نفذتفي السنة الدراسية الفارطة والتي خصصت للراسبين من تلاميذ السنة الرابعة من التعليمالابتدائي حيث خُصُّوا وفي فصولهم بمتابعة خاصة وبساعات دعم فقد كانت محاولاتتلفيقية لأنها وهذا حسب النتائج المحققة لم تؤد إلى تحسين مستوى الذين استهدفتهموسرعان ما وقع التخلّي عنها لا بل وقع التخلّي عن مناظرة السنة الرابعة أصلا ومثلماكان إقرارها فوقيا كان التخلي عنها أيضا فوقيا. 
بعض مؤشرات فشل نظام تعليم الكفاياتبعداستكمال تنفيذ خطة إرساء نظام تعليم الكفايات التي وضعت منذ سنة 1993 وبعد مرحلة منالتطبيق عمرها اليوم أكثر من ثماني سنوات يمكن الإشارة إلى بعض مؤشرات فشل هذاالنظام.
ـ تعليم الكفايات أرسى منظومة تقييمتلفيقية تقوم على مقولة "النجاح قاعدة والرسوب استثناء" وهو شعار تُرجم في الواقعإلى ما يسمّى بالارتقاء الآلي الذي تسبب في تراجع الدافعية لدى المتعلمين للتعلّموالاجتهاد للنجاح وأدّى إلى تدنى المستوى.
ـ تعليمالكفايات أدّى إلى إرساء مدارس للنخبة والمعروفة بالمدارس النموذجية وقد بلغ عددهافي الإعدادي فقط 13 مدرسة موزعة على كامل الجهات وهي مدارس تكرس بالملموسلاديمقراطية التعليم وعدم تكافؤ الفرص بين المتعلمين. 
ـ تعليم الكفايات ضرب مجانية التعليم فالأسرة أصبحت تتكبد نفقات كبيرةلتعليم أبنائها في العشر سنوات الأخيرة وهو عبء ظل يكبر و يتضخم من سنة إلى أخرى. 
ـ تعليم الكفايات عمق من واقع عدم التساوي فيالحظوظ بين أبناء الفقراء وأبناء الأسر الميسورة ويمكن التدليل على ذلك بأن النسبةالغالبة من الذين لا يتمكنون من إنهاء تعليمهم الإعدادي أو الثانوي أو الجامعي أومن الذين لا يتمكنون من الالتحاق بالتعليم الذي يرغبون فيه بحكم مقاييس التوجيهالجامعي أو من الذين يعززون صفوف المعطلين من أصحاب الشهائد هم من أبناء الأسرالفقيرة. 
ـ تعليم الكفايات أدى إلى إغراق المعلموالأستاذ في إلزامات شكلية ضاعفت من وقتهما المخصص للتعليم تحضيرا وإنجازا دون أنينعكس ذلك على أجرة كل منهما والتي تدهورت بنسبة كبيرة.
هذه بعض الإشكاليات المتعلقة بطبيعة هذا النظام وبأهدافه وغاياته وهذه وبعضمؤشرات فشله أيضا. إنها دعوة لكل الذين يهمّهم أمر التعليم إلى التحرك من أجلالإصلاح فأزمة النظام التعليمي أصبحت اليوم تتطلب حلولا ولن يكون ذلك ممكنا إلابتجنيد كل فئات الشعب المستهدفة من هذا التدمير المبرمج للمدرسة والتعليم من أجلفرض التراجع عنه وصياغة مشروع تعليمي بديل يخطط له بصورة ديمقراطية في نطاق حواروطني حقيقي. ولعل الدور الأهم من أجل الوصول إلى ذلك يبقى موكولا لنقابات التعليمباعتبار أن هذا الشأن هو من أهم أولوياتها في الوقت الحالي. 

بشيرالحامدي تونس في 10 جويلية 2009

abhath.own0

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة