الأحد، 29 يوليو 2012

الأزمة الإسبانية «تهز» منطقة الأورو وخبراء اقتصاد أوربيون ينتقدون غياب الحلول السياسية للأزمة


تسير أوربا من سيء إلى أسوأ. لم يمر سوى شهر على آخر قمة أوربية حتى وجد الزعماء الأوربيون أنفسهم، من جديد، في وضع لا يحسدون عليه. واعتبر تأزم الأوضاع إشارة إلى عدم نجاعة الإجراءات والتدابير التي أقرّتها القمة الأوربية الأخيرة. وقد صارت إسبانيا مقياس الأزمة، ولذلك تدق نواقيس الخطر كلما ازدادت أزمتها تعمقا.
أقفلت البورصات العالمية تداولاتها في أول أيام الأسبوع الجاري على إيقاع تراجع جديد ومثير للأورو مقابل الدولار.. فسّر المحللون الماليون هذا التراجع ببلوغ مديونية كل من إسبانيا وإيطاليا، العضوين في الاتحاد الأوربي، مستويات «قياسية».
تراجعت، أيضا، مؤشرات الثقة في الاقتصاد الأوربي إثر ورود أنباء غير مطمئنة بخصوص حالة الاقتصاد الإسباني وتنامي المخاوف من إقدام دول الاتحاد على التخلي على اليونان، بعد أشهر من محاولة احتواء أزمتها الاقتصادية والمالية.
تأزمت وضعية العديد من الجهات الإسبانية على المستويين الاقتصادي والمالي. فقد بلغت مديونية هذه الجهات، في النصف الأول من السنة الجارية، مستوى قياسيا، بعد تجاوزها سقف 145 مليار أورو، وهي سابقة في تاريخ التدبير المالي في إسبانيا على الصعيد الجهوي. وفي ظل هذه الوضعية، تنامت المخاوف في الأسواق العالمية من احتمال أن تعجز حكومة مدريد عن تنزيل مخططها الإنقاذي، في ظل اتّساع رقعة الأزمة المالية التي تضرب اقتصاد البلاد.
جنون إسباني
لم يمكن ضخ 120 مليار أورو في الاقتصاد الأوربي وبلورة اتحاد بنكي ووضع مخطط إنقاذ لإسبانيا وإيطاليا دون التأثير على الديون السيادية لهاتين الدولتين كافيا لتقطع أوربا مع أزمنة توشك أن تعصف باقتصاديات كان يُنظَر إليها، حتى وقت قريب، بوصفها نقط «ارتكاز» في اقتصاد منطقة الأورو..
دخلت الأزمة في إسبانيا منعرجا جديدا يوم الجمعة الماضي، بعد أن أقدمت جهة فلنسية على طلب مساعدات جديدة باعتبارها أكثر جهات إسبانيا مديونية. اعتبر النداء مسمارا آخر في مخطط إنقاذ الاقتصاد الأوربي، الذي تشرف عليه بروكسيل. لم وتقف تداعيات نداء الجهة الأندلسية عند إسبانيا لوحدها، بل تسببت أيضا في بروز مخاوف من أن تنتقل هذه الظاهرة إلى إيطاليا، التي تعيش وضعا مشابها لإسبانيا.
في مدريد، توجست حكومة ماريانو راخوي خيفة من احتمال أن تحذو جهات أخرى حذو فلنسية وتلتمس، بدورها، مدها بمساعدات من أجل مواجهة الأزمة التي تهدد ب»شلّ» جميع الأنشطة الاقتصادية فيها وتوجه بذلك ضربات قوية إلى الأوضاع الاجتماعية. وفي هذا السياق، تنتاب مدريدَ، في الوقت الراهن، مخاوفُ كبرى من أن ترغم الأزمة جهة كاتالونيا، التي تساهم لوحدها بربع إجمالي الناتج الداخلي الخام للبلاد، على إعمال مسطرة طلب المساعدات.. وسيوجه إجراء من هذا القبيل ضربة قوية قد تهُزّ أركان الاقتصاد الإسباني، لأن هذه الجهة تشكل إحدى أبرز دعاماته الأساسية.
ينضاف إلى هذه المخاوف الرائجة حول حالة الاقتصاد الإسباني الخطر القادم من الشرق الأوربي، وتحديدا من اليونان. فالأنباء الورادة من أثينا لا تستبعد أن يتخذ زعماء أوربا قرارا بالتخلي عن دعم الاقتصاد اليوناني وضخ ما يكفي من الأموال فيه لكي يسترجع «عافيته» أو يسير قدما نحو تجاوز أزمته الحالية.. المخاوف كلها مصدرها برلين، التي لم تعد تُبدي حماسا كبيرا للمضيّ قدُما في تنفيذ مخطط إنقاذ اليونان.
تأتي هذه المخاوف في وقت توجه مراقبون من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وخبراء من الاتحاد الأوربي إلى العاصمة اليونانية أثينا من أجل الوقوف على مدى التقدم المُحقَّق في تنزيل خط الإنقاذ وتقييم جدية الحكومة اليونانية الجديدة في تفعيل الإصلاحات الضرورية من أجل ضمان الحصول على مزيد من الدعم المالي.
أزمة البورصات
أرْخت المخاوف سالفة الذكر وتنامي عدم الثقة في اقتصادات منطقة الأورو بظلالها، في مستهل الأسبوع الجاري، على البورصات الأوربية. فقد فقدت بورصتا باريس وميلان قرابة ثلاث نقط من قيمة أسهمها ساعة إقفال تداولاتها ليوم الاثنين الماضي. أما السوق المالية الإسبانية فقد عرفت تسجيل تراجع قويّ في تداولاتها لليوم نفسه. بلغت نسبة التراجع، بعد ساعات من بداية التداولات، 5 في المائة، غير أن السوق المالية الإسبانية نشطت بعد ذلك، وتمكّنت من إقفال التداولات بأقل الخسائر الممكنة، بتسجيل نسبة سلبية في حدود 1.1 في المائة.
أما بورصة أثينا فقد فقدت، عشية وصول خبراء الاتحاد الأوربي ومراقبي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى العاصمة اليونانية، 7.1 في المائة من قيمة أسهمها.
وبالموازاة مع تراجع الأسواق المالية للدول المعنية بالأزمة الحالية، أو تلك التي صارت مُرشَّحة للانضمام إلى قائمة الدول المتأزمة أوضاعها، لم يستطع الأورو الصمود أم الدولار الأمريكي. وخسرت العملة الأوربية 1.20 دولار أمريكي من قيمتها، وهو ما هوى بها إلى أدنى مستوى صرفٍ لها مقابل العملة الأمريكية في السنتين الأخيرتين.
مخاوف إسبانيا
رغم أن الأنباء الواردة من كل من أثنيا وروما لا تبعث على الاطمئنان بخصوص حالة الاقتصادين اليوناني والإيطالي، فإن إسبانيا تعتبر مصدر المخاوف الكبرى بشأن مستقبل الاقتصاد الأوربي.. «لم يقتنع المستثمرون بالمخطط الذي تمّت بلورته من أجل إنقاذ القطاع البنكي والمصرفي في البلاد، لأن المشكلة يتجاوز بكشل كبير القطاع البنكي، بالنظر إلى المشاكل التي تعاني منها الجهات في إسبانيا»، وفق دوارت كالداس، المحلل المالي في «إي . جي. ماركت».
أما مورانس بون، رئيس القسم الاقتصادي في دورية «أبناك أوربا وأمريكا»، فعمّق جراح الإسبان في تصريحات صحافية أدلى بها مؤخرا لوسائل الإعلام الدولية، قال فيها «إن إسبانيا تعاني، في الآن ذاته، من مشكل بنكي ومشاكل المديونية الخارجية ومن مشاكلَ أخرى ترتبط بالتنافسية والنمو»..
وعلى هذا الأساس، يبدو أن الأزمة ستستمر في توجيه ضرباتها إلى الاقتصاد الإسباني. وقد انخرطت المؤشرات الاقتصادية في إسبانيا في منحى تنازلي.. ويتضح هذا الأمر بجلاء في تواصل تراجع الناتج الداخلي الخام للبلاد، وهو تراجع تعمق بين شهري أبريل ويونيو الماضيين، وبلغت نسبة التراجع حوالي 0.4 في المائة، علما أن المؤشر نفسه تراجع في الفصل الأخير من السنة الماضية والفصل الأول من السنة الجارية بنسبة قدرت بنحو 0.3 في المائة.
انهار الطلب الداخلي في إسبانيا، وسط مخاوف من أن تتدهور أرقام هذا المؤشر الاقتصادي جراء مخطط التقشف الذي تنهجه حكومة ماريانو راخوي. ويهدف المخطط إلى تمكين الحكومة، التي يقودها الحزب الشعبي الإسباني، من توفير غلاف مالي ضخم يصل إلى 65 مليار أورو، من أجل تسخيره لمواجهة تداعيات الأزمة الحالية..
وقد أدّت الأزمة الاقتصادية الحالية، أيضا، إلى ارتفاع معدل البطالة، إذ وصل إلى أعلى مستوى له، باقترابه من خرق عتبة 25 في المائة. وتسبب تنامي هذا المؤشر في إثارة غضب الفرقاء الاجتماعيين في إسبانيا. فقد خرجت النقابات عن صمتها ووضعت حدا لفترة «تسامحها» مع حكومة راخوي. ولم تتردد التنظيمات النقابية في رفع التحدي أمام السياسة التقشفية للحكومة عبر المطالبة بضرورة إجراء استفتاء شعبي حول هذا المخطط التقشفي الجديد بسبب تضمنه إجراءات تستهدف رفع الضريبة على القيمة المضافة وتخفيض أجور موظفي الدولة.
وبما أن كل المؤشرات تؤكد أن الاقتصاد الإسباني قد لا يتمكن من تجاوز الأزمة التي يعاني منها البلاد حاليا على الأمد القريب أو المتوسط، فإن الأصوات تعالت أيضا مطالبة حكومة راخوي بوضع مخطط إنقاذ على المدى البعيد، مشددة على أن مخططا من هذا القبيل بات ضرورة مُلحّة في الوقت الراهن.
وفي هذا السياق، يقول لورانس بون إن «إسبانيا استنفدت، إلى حدود الساعة، 60 في المائة من قدراتها التمويلية، ولم يعد أمام حكومتها هامش كبير للمناورة على المستوى المالي. وفي حالة منع إسبانيا من ولوج الأسواق، على ضوء التراجعات التي يسجلها اقتصادها، فإن البلاد لن تستطيع أن تصمد سوى لفترة تتراوح بين 3 و5 أشهر»..
تفاؤل
مع ذلك، يصر لويس دي غيندوس، وزير الاقتصاد الإسباني، على أن بلاده لن تعمد إلى تفعيل مخطط إنقاذ في استبعاد واضح لاحتمال أن تسير إسبانيا على خطى اليونان في معالجة أزمتها الاقتصادية الراهنة.
وقد شدد الوزير الإسباني على أن بلاده ما تزال قادرة على تسديد ما في ذمتها من ديون، مؤكدا في الوقت نسفه ثقته في قدرة بلاده على تجاوز أزمتها الحالية دون الحاجة إلى الدخول في متاهة مخطط إنقاذ. وقال دي غيندوس، في خطاب ألقاه، مؤخرا، أمام اللجنة الاقتصادية في البرلمان الإسباني: «إسبانيا بلد يمتلك القدرة على التسديد. وستمكننا هذه القدرة، لا محالة، من مواجهة الصعوبات التي تعترض طريقنا في الوقت الراهن».
أكثر من ذلك، أبان الوزير الإسباني عن تفاؤل كبير بخصوص إمكانية تحسّن المؤشات الاقتصادية لبلاده في وقت لاحق من السنة الجارية، إذ قال أيضا في الخطاب سالف الذكر إن «إسبانيا تملك القدرة على تجسيل نمو إيجابي في السنة الجارية ولا تعاني، على الإطلاق، من المشاكل التي تعاني منها دول أخرى دخلت دائرة الحاجة إلى مخطط للإنقاذ».
غير أن متتعبي الشأن الأوربي اعتبروا هذه النظرة التفاؤلية التي اتسم بها خطاب الوزير الأسباني محاولة منه لتذكيره أصدقاء إسبانيا في الاتحاد الأوربي بعزم الحكومة الإسبانية على مواصلة اتخاذ التدابير الضرورية لإعادة التوازن إلى الميزانية العامة للدولة وإقرار الإصلاحات البنيوية التي يستلزمها بلوغ هذا الهدف، وهي إجراءات تلقى تشجيعا من قِبَل الاتحاد الأوربي.
أيا كانت الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإسبانية أو التدابير التي تنوي إقرارها لمواجهة الأزمة التي تُهدّد ب»شل» اقتصادها، فإن الأوربيين على يقين من حاجة منطقة الأورو الماسّة إلى إطفاء نار الأزمة في إسبانيا لكي لا يمتد فتيلها إلى دول أخرى، وتصبح أزمة أوربية شاملة.
يتمنى الأوربيون بلوغ هذا الهدف في أسرع وقت ممكن. وتعي بروكسيل جيّدا أنه ستكون لكسب هذا الرهان في وقت وجيز نتائج إيجابية على المتانة الاقتصادية لمنطقة الأورو.. ولا يبدي القادة الأوربيون اطمئنانا لدخول أطراف غير أوربية على خط الأزمة في كل من البرتغال وإيرلندا واليونان.. ذلك أن دخول صندوق النقد الدولي على الخط في معالجة الأزمات المالية والاقتصادية في هذه الدول لا يخلو من مخاطر على مستقبل نمو اقتصادات المنطقة الأوربية.
ففي حالة انتقال «نار» الأزمة إلى دول أخرى، سيجد الاتحاد الأوربي نفسَه في موقف حرج: لن يتوفر على السيولة الكافية للتدخل لإنقاذ الدولة، التي يُحتمَل أن تنضمّ إلى نادي الدولة المتأزمة. وفي هذا الإطار يأتي قول دوارت كالداس: «إذا أقدم الاتحاد الأوربي على ضخ 300 مليار أورو في الاقتصاد الإسباني فإنه لن يجد في خزينته ما يكفي من الأموال للتدخل في حالة واجهت دول من منطقة الأورو الأزمة في وقت لاحق». ولتفادي هذا السيناريو، يطالب الخبراء الاقتصاديون الاتحادَ الأوربي بأن يعمد إلى اتخاذ قرار جريء يقوم بموجبه البنك المركزي الأوربي باقتناء الديون السيادية للدول التي تعاني من الأزمة. غير أنه لن يكون بمقدور الأوربيين التوصل إلى اتفاق يقضي بتنبي هذه النصيحة. فالدول التي لا تعاني من الأزمة، وفي مقدمتها ألمانيا، لا تبدي «حماسا» كبيرا لهذا الخيار..
غياب الحلول السياسية
تؤكد الوضعية التي وصل إليها الاقتصاد الأوربي والانقسام الخفيّ بين زعمائه بخصوص الأسلوب الأمثل لمواجهة الأزمات التي تهدد بشكل كبير اقتصادات العديد من الدول، ضمنها دول كانت تعتبر، إلى وقت قريب، من الركائز الاقتصادية الأساسية لمنطقة الأورو، المدى الذي وصلت إليه هذه الأزمة.
وقد ذهب متتبعون للشأن الأوربي إلى إبداء ملاحظات مثيرة عن الأسلوب الذي تعتمده بروكسيل لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة التي تعاني منها منطقة الأورو، وتتعلق أكثر الملاحظات إثارة للانتباه بغياب أو عدم كفاية الأجوبة السياسية الناجعة على هذه الأزمة.
وفي هذا الإطار، يؤكد لورانس بون أنه «رغم التقدم الذي استطاعت القمة الأوربية تحقيقه على مستوى تعزيز الرقابة على القطاعات الأبناك الأوربية، فإن الحاجة ماسة في الوقت الراهن وأكثر من أي وقت مضى إلى المضي قدما نحو تفعيل الاتحاد البنكي، أو على الأقل، اعتماد نوع من التدبير الفدرالي للقطاع البنكي في منطقة الأورو».
وفي انتظار ذلك، يبدو أن مجمل محاولات قادة الدول التي تعاني من الأزمة لطمأنة الرأي العام المحلي والأوربي، وكذلك العالمي، بشأن قدرة بلدانهم على الوقوف في وجه الأزمة قد تفضي إلى نتائج عكسية.. نموذج ذلك من تصريحات أدلى بها ماريو كونتي، رئيس الحكومة الإيطالية، مؤخرا، أكد فيها أن الوقت غير ملائم لعقد قمة أوربية جديدة لتدارس الأزمة الحالية.. وهي تصريحات كانت لها نتائج سلبية على أداء السوق المالية الإيطالية وكانت لها تأثيرات سلبية، أيضا، على باقي الدول الأوربية التي تعيش على إيقاعات الأزمة الاقتصادية
والمالية.
عن «لوفيغارو»

محمد بوهريد / المساء

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة