الجمعة، 27 يوليو 2012

نقاش المبررات الرئيسية للهجوم على نظام التقاعد


بعدما قدمنا في العدد ما قبل السابق عرضا للملامح العامة لمشروع الإصلاح الذي يقترحه مكتب الدراسات اكتواريا في دراسته عن أنظمة التقاعد بالمغرب، نتطرق حاليا لنقاش الحجج الرئيسية التي يستند عليها لتبرير الهجوم. إن كل الحجج المستعملة وكل جوهر الإصلاح متضمن في التشخيص التالي لأنظمة التقاعد الذي يتبناه مكتب الدراسات والحكومة واللجنة التقنية لإصلاح نظام التقاعد: ستراكم أنظمة التقاعد عجزا ماليا متفاقما، لأن الحقوق المكتسبة لن يصبح بالإمكان تغطيتها من خلال الاحتياطيات المالية الحالية ولا من خلال المداخيل المستقبلية للتحملات الجديدة. وللحيلولة دون انهيار أنظمة التقاعد لا يجب الإقتصار فقط على تخفيض المعاشات وتمديد سن التقاعد، بل يجب  تحويل أنظمة التقاعد بالتوزيع إلى نظام الرسملة      

ولبلوغ هذه الغاية وجهت سهام المهاجمين صوب "فقدان التوازن المالي الوشيك" لصناديق التقاعد. وبنيت حججهم بتقديم سببان أديا، في نظرهم، إلى مفاقمة الوضع المالي لأنظمة التقاعد، هما فقدان التوازن الديمغرافي وسخاء المعاشات. سنحاول أن نتفحص مدى صدقية وجود تدهور للوضع المالي لأنظمة التقاعد من خلال مناقشة الحجتين المستند عليهما وفي سياق ذلك سنتحقق من مدى موضوعية الفرضيات الرئيسية التي استند عليها خبراء مكتب الدراسات لوضع توقعاتهم لآفاق الأنظمة الرئيسية : الصندوق المغربي للتقاعد والصندوق الوطني للضمان الإجتماعي.
الأزمة المالية لصناديق التقاعد ؟
لشرعنة الهجوم على أنظمة التقاعد يستند برنامج الإصلاحات المقترحة على منطق التهويل من " العجز المالي المرتقب على المدى القريب والمتوسط لصناديق التقاعد" وهذا الإدعاء غير صحيح إلا بالنسبة للصندوق المغربي للتقاعد الذي سيعرف بالفعل ابتداء من سنة 2012 ظهور عجزه المالي الأول ونضوب احتياطياته في سنة 2019. أما الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فلن يعرف بالتأكيد أي عجز مالي طيلة الخمسين سنة القادمة.
و اعتمادا على العجز المرتقب للصندوق المغربي للتقاعد يستعمل مشروع الإصلاح صيغة التعميم على باقي الصناديق ليخلص إلى الاستنتاج التالي: يرجع سبب العجز في الحصيلة الإكتوارية لصناديق التقاعد إلى انخفاض النسبة الديمغرافية وسخاء الأنظمة. وسنقف عند هاتين الحجتين الواحدة تلو الأخرى للتحقق من مدى صحة الإدعاءات المطروحة.
فقدان التوازن الديمغرافي ؟
شخص مكتب الدراسات اكتواريا وضعية الصندوق المغربي للتقاعد ليستخلص تدهور نسبته الديمغرافية، حيث ستنتقل من 4 سنة 2007 إلى 1,5 تقريبا في أفق سنة 2060 ، أي ناشط واحد ونصف مقابل كل متقاعد. تعد هذه النسبة مؤشرا على فقدان التوازن الديمغرافي مستقبلا لهذا الصندوق. لكن كيف توصل مكتب الدراسات إلى هذا الاستنتاج؟ لقد بنى المكتب الآفاق الديمغرافية للصندوق المغربي للتقاعد على توقع ركود عدد الموظفين على امتداد الخمسين سنة القادمة، أي على تزايد سنوي يبلغ صفر. أما الموظفون الجدد كل سنة فيوجهون فقط لتعويض عدد المتقاعدين المغادرين.
إن التوقع الديمغرافي لمكتب الدراسات غير منطقي، لأنه يتناقض مع كل من نسبتي التزايد السكاني السنوي والنمو الاقتصادي. هل من المعقول أن لا يؤدي التوسع السكاني إلى زيادة عدد الموظفين ليتلاءم مع الحاجيات الجديدة على مستوى الإدارة والخدمات العمومية... إلخ ؟ هل لا تقتضي نسبة النمو الاقتصادي السنوي رصد المزيد من المناصب لوظيفة الإشراف؟ كيف ستساير الدولة تزايد عدد المقاولات على امتداد الخمسين سنة القادمة في مجال تحصيل الضرائب مثلا ؟
إن التوقع الديمغرافي لمكتب الدراسات مبني بالأحرى على خفض عدد الموظفين مقارنة بعدد السكان ونسبة النمو الإقتصادي، ولهذا فهو ليس جديرا إلا ببلد واقتصاد يعيش تقهقرا دائما. وهي وضعية لن يعرفها المغرب ولم يسبق أن عرفها أي اقتصاد. نستنتج أن التحليل الإكتواري لمكتب اكتواريا، خاصة منه الشق المتعلق بالآفاق الديمغرافية للصندوق المغربي للتقاعد، يفتقد لمقومات الموضوعية. ويبدو أنه كان منشغلا أكثر باعتبارات سياسية متمثلة في إعداد المبررات لإضفاء الشرعية على الإصلاح.
أما الجديد الذي تضمنته دراسة مكتب أكتواريا في ما يتعلق بتشخيص آفاق الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، عكس التقارير الرسمية السابقة، فهو عجزه عن إثبات أي عجز مالي مرتقب لهذا الصندوق على مدى الخمسين سنة القادمة، واعترافه " بديناميته الديمغرافية القوية". أما العجز المتوقع بعد 2037 فقد بناه مكتب الدراسات على ركود لمعدل الاشتراك الحالي. وبما أنه يستحيل بقاء هذا المعدل في المستوى الحالي طيلة خمسين سنة، فقد توصل مكتب الدراسات إلى استنتاج حفاظ هذا النظام على توازنه المالي مستقبلا إذا تمت الزيادة في معدل الاشتراك بنسبة طفيفة ليبلغ 14% فقط.
معنى ذلك أن الصندوق بإمكانه المحافظة على توازنه المالي حتى وإن ظل معدل الاشتراك شبه راكد.
إن الخلاصات التي توصل إليها مكتب أكتواريا في ما يتعلق بتشخيص الآفاق الديمغرافية والمالية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تتناقض مع استنتاجاته العامة للتحليل الإكتواري لأنظمة التقاعد. فكيف يقر بالتوازن المالي المستقبلي لأكبر صندوق للتقاعد من حيث عدد العمال المؤَمَّنين ويتشبث في نفس الوقت بمواصلة التهويل من "العجز المالي المرتقب لأنظمة التقاعد"؟
هل أنظمة التقاعد بالمغرب سخية؟
سيرا على نهج التقارير الرسمية السابقة يواصل مكتب الدراسات اكتواريا طرح حجة "سخاء أنظمة التقاعد" باعتبارها إحدى سببي "الأزمة المالية للصناديق". فهل أنظمة التقاعد سخية؟ يوجه الليبراليون اتهامهم المباشر إلى الصندوق المغربي للتقاعد معتبرين أن مسألة تصفية المعاش على أساس آخر أجرة هي أحد العوامل الرئيسية لتدهور وضعيته المالية. هذه الحجة باطلة، يكفي لدحضها أن نقول أنها لم تطبق بشكل كامل إلا خلال مدة وجيزة من تاريخ الصندوق، أي خلال 13 سنة الأخيرة فقط وبالتحديد ابتداء من سنة 1997. أما طيلة أكثر من أربعة عقود فقد ظل معاش الموظفين يصفى بناء على نصف مبلغ الأجر فقط. كان المتقاعدون، إذن، يحصلون طوال هذه المدة على أجور هزيلة لا تتجاوز مقدار نصف أجورهم. هناك عامل آخر قد يجعل معاشات متقاعدي الصندوق تبدو "سخية"، وهي المعاشات العليا التي يحصل عليها كبار موظفي الدولة من الأطر العليا والمدراء...إلخ بسبب احتكارهم لجزء أكبر من كتلة الأجور. باختصار، لا يمكننا مطلقا الحديث عن "سخاء معاشات التقاعد بالصندوق المغربي للتقاعد"، فقد بلغ متوسط المعاش في سنة 2004 حوالي 1634 درهم شهريا فقط، وهو مبلغ بعيد عن "آخر أجرة للموظفين".
بعدما أثبتنا الآن أن الصندوق المغربي للتقاعد ليس سخيا كما يزعم خبراء مكتب اكتواريا، نستنتج بالتالي أن هذا "السخاء" المزعوم لا يمكن أن يشكل سببا لتدهور الوضعية المالية لهذا الصندوق كما يدعي ذلك الخطاب الرسمي.
وماذا بشأن "سخاء" معاشات باقي الأنظمة؟ خلال تقديم مشروع إصلاح أنظمة التقاعد السابق الذي تبنته اللجنة التقنية لإصلاح التقاعد كان الليبراليون قد تجرؤوا إلى حد لا يصدق عندما وصفوا معاشات التقاعد التي يمنحها الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي بالسخية. ونتذكر أن اللجنة التقنية التي تضم في عضويتها ممثلي النقابات قد أسهبت في عرض طريقة تصفية المعاش باعتبارها تمثل سخاء لا يطاق قد يؤدي إلى التأزم المالي للصندوق. وبالنسبة للمشروع الحالي للإصلاح اكتفى مكتب اكتواريا بعرض حجة "سخاء الأنظمة" دون أن يدعمها بأي برهان. ويجب أن نرى في ذلك عجزه عن إيجاد أدلة ملموسة. فاستنادا إلى آخر المعطيات التي أدلى بها الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي بلغ متوسط المعاش 1115 درهم في الشهر، وهو بعيد جدا عن الحد الأدنى للأجر. وفضلا عن ذلك فهو يخفي الانخفاض الكبير لمعاشات الصندوق لأنه لا يظهر التمايزات. فحوالي ثلث المتقاعدين يحصلون على معاشات تتراوح ما بين 600 و1000 درهم. أما معاشات متقاعدي "النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد" فلا تقل بؤسا. فقد كان متوسط المعاش يبلغ إلى نهاية سنة 2008 حوالي 1694 درهم شهريا فقط.
باختصار، تبرهن كل المعطيات أن حجة "سخاء معاشات التقاعد" التي استند عليها الليبراليون مجرد قناع زائف غايته تبرير هجومهم على الحق في التقاعد. فالسخاء منعدم بالنسبة لمعظم الصناديق، فكيف يؤدي إلى فقدان توازنها المالي.
خلاصة القول هي أن الأطروحة الرئيسية التي استند عليها الهجوم النيوليبرالي والتي كررها دون ملل مكتب الدراسات وتروجها كامل الصحافة الليبرالية والقائلة "بفقدان التوازن المالي الوشيك لأنظمة التقاعد" غير صحيحة لأنها لا تنطبق على كل صناديق التقاعد الرئيسية. فالصندوق المغربي للتقاعد وحده هو المرشح لأن يعرف أزمة فقدان توازنه الديمغرافي. إن السياسة النيوليبرالية التي طبقتها الحكومة مع بداية الثمانينات هي المتسببة في ذلك حيث نتج عنها تقليص عدد الموظفين وتقليص الأجور. لا يمكن تصحيح الوضع بالصندوق المغربي للتقاعد بدون القطع مع السياسة النيوليبرالية للدولة التي تهجم على الخدمات العمومية من مرافق صحية وتعليمية ...إلخ وتحول المؤسسات العمومية إلى القطاع الخاص وتفوت المرافق الحيوية من ماء وكهرباء وتطهير إلى الشركات الخاصة، لأنها بذلك تعمل على تقليص قاعدة الموظفين النشطين بالصندوق وفي نفس الوقت تجهز على حقوق المواطنين.
الاربعاء 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 المناضل-ة عدد: 30

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة