الثلاثاء، 19 يونيو 2012

مظاهر الحضارة الأندلسية في شفشاون


مدخل:

شفشاون، التاريخ، الأصالة، الجمال، الطبيعة المتميزة، تمارس إغراءها على الجميع، تتميز بتنوعها الحضاري والتاريخي والمعماري، تحافظ على أسرارها التاريخية بكثير من الإخلاص، وهذا ما يمنحها سحرا خاصا وتميزا عن باقي المدن المغربية، فهي تجمع ما تفرق في غيرها، عطاء الهي جعلها على امتداد العصور والأحقاب المزار الذي لا يمل، والمكان الذي لا يشاهد فيه سوى ما يريح النفس والعين لن تصل إليها إلا صعودا، ولا تبلغ بيوتها إلا صعودا، وساحة وطاء الحمام هي المنبسط الوحيد في المدينة العتيقة.

وصفها الأديب اللبناني أمين الريحاني عندما زارها سنة 1939 م حيث قال:
«شفشاون مجموعة ظلال على الأفق المشرق.. الصروح البيضاء المتوجة بتيجان الحصون، الحاملة خارجا وداخلا رسالة الحمراء في الهندسة الغرناطية شكلا ومعنى -جملا وتفصيلا- في النقش والتلوين، وقل التلحين وقل الغناء. وإن أجمل الألحان لفي هذا الزخرف وهذه الألوان»([1]).

وزارها من بعده الشاعر الكبير فيسنتي اليكسندري سنة 1955 م، الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1977 م والذي قال عنها:
«إذا قلت لك أنه قد أعجبني - من رحلة الزيارة هناك.. إلى الرعان السامقة، إلى مدينة شفشاون المقدسة ذات التعاريج الملتوية والتي تجلب العقل، والمترنمة بخرير مياهها، بحيث يأخذ المتجول فيها خشوع ديني - فليس هذا بالحقيقة الكاملة، ولكن هي دلالة تقربني إليها»([2]).

ومن قبلهما زارها أبو علي الحسن اليوسي سنة 1080 ﻫ وقال فيها:

شفشاون مأوى الشمم
والمجد عن طول الأمم

بلد بحسبك، منظر
منه، ومخبره أتم
مسرى الهموم ومسرح الأفكار مسلاة الغمم
مترفلا في حلة
من حسنه جنب «العلم»
كالحرة الحسناء في
كنف الهمام المحترم
وتراه من جنباته
متلألأ بين الأجم
كالدر بين زمرد
في قرط مارية انتظم
والبدر ما بين الدجا
والشيب في سود اللمم
يعلو فويق جبينه
علم تدلى من أمم
فكأنه تاج اللجين على جبيني ذي عظم
أو كالكبير مزملا
أودى بنهضته الهرم
في رأسه صلع وفيما تحت جبهته غمم
أو كالجواد بأنفه
من ذلك القصر الرثم
يكفيك منه هواؤه
لا خبث فيه ولا وخم
وزلاله العذب الذي
يشفي الفؤاد من الضرم
حاكى العقار وفاقها
بصفاء لون والشبم([3])

ولم يكن أحد أبنائها من المعاصرين أقل إعجابا وتناغما بمدينته التي خالها جنة في الأرض تحف بها الأشجار والظلال والجبال والنهر المنساب بجانبها حيث قال:

أشفشاون قد خلناك في الأرض جنة
تحف بها الأشجار والظل والنهر
جبالك في الأجواء تعلو تفاخرا
ويصبو لها شو قا من الأفق البدر
يقبل سطح الأرض حتى كأنه
أتى طائعا يرجو وقد صدر الأمر
أقامت لدى طودين كالملك الذي
تربع عرش الفخر كلله النصر
وزيران قاما حولها يرشدانها
إذا خانها رأي وزل بها الفكر
أديبان قاما حولها ينشدانها
قصائد تشطير إذا عجز النثر
كأنها بيت من الشعر فوقها
فهذا به شطر وذاك به شطر
يراودها هذا بشمسه في الضحى
وذا في الدجا بالبدر إذ قرب الفجر([4])

حصن مغربي تليد، ممتد وسط جبال الريف الشامخة كشاهد على أصالة ومجد هذه المنطقة، ملتقى الحضارة الغمارية والخمسية([5])، ثراءها لا ينضب، فالكل يجد له ما يبتغيه فيها. جمالا، وفنا، ولونا وتشكيلا، وموالا، ونوبات طرب أندلسي، وعيطة جبلية، ومديحا نبويا، وفكرا وثقافة وطابعا أندلسيا في شكلها الهندسي للأحياء القديمة التي تشبه إلى حد بعيد أحياء "غرناطة" أو "بيخيت دي لافرونتيرا" أو "البخرات" وأنت تمشي، بين أزقتها، وتطل على دروبها الضيقة والملتوية بأسمائها الأندلسية (ريف الأندلس) (زنقة الغرناطي) (درب الغراندي) وبيوت أسر أندلسية مشيدة يمنة ويسرة المتميزة بأبوابها ومداخلها وفنائها وأقواسها ونوافذها ذات الشبابيك الحديدية الفريدة (دار البيطار، دار الحفيان، دار الحضري، دار امفريج، دار الغرناطي، دار الغراندي، دار مورسيا، دار بن عبدون، دار عدرون، دار العاقل، دار بيصة، وغيرها، وسوف يأتي ذكر للأسر الأندلسية التي استوطنت المدينة وما زال أحفادها إلى اليوم). إنها إرث تاريخي مجلوب من الأندلس.
إنها مدينة أندلسية مغربية، وتاريخها منقوش على سورها وأبوابها وأزقتها ودروبها وبيوتها وعادات أهلها التي ما زالت حية تصارع الزمن، متحدية عواصف وأعاصير الأحداث التي ما فتئت تحاول اقتحامها والقضاء عليها. عاشت منغلقة على نفسها لقرون ولكنها منفتحة على محيطها، وعلى كل التأثيرات الخارجية، أندلسية في أعماقها مرتبطة بخصوصيتها الثقافية والحضارية، إنها تختزل خمسة قرون في يوم واحد للزائر إليها.
كل هذا يمنحك إحساسا كبيرا بالمتعة، لأنك تكتشفها بأقل قدر من التعب، وكل شيء يترك فيك أثرا لا ينسى.

شفشاون الإسم والموقع
إن مدلول كلمة شفشاون كما يرى البعض هو (أنظر إلى القمم)، إذ يرون فيها اسما مركبا من كلمتين (شف) من الهجة الدارجة (أنظر) و (شاون) بالهجة الأمازيغية وتعني (قرون) أي قمم الجبال، وقيل إن معناها مكان يجتمع فيه الناس، ويرى الباحث الاسباني "غيير موغوثالبيث بوسطو" في بحثه عن اسم مدينة شفشاون([6]). عرف تطورا في كتابته ونطقه في المصادر البرتغالية والاسبانية والفرنسية مثل:

XEXUAO- XAUEN- CHAUEN- XAXAUEN- CHECHAOUEN- CHEFCHAOUN- CHEFCHAUEN.

وهذا الإسم الأخير هو الذي أقرته مدريد سنة 1918 م بناء على تقرير أعده أحد العسكريين الاسبان وهو: خوان دي لا سكيطي Juan delasquetti، وهو المتداول إلى اليوم.

وتقع في أقصى الشمال الغربي للمملكة المغربية على ارتفاع 600 متر عن سطح البحر، وهي ذات مناخ جبلي جاف على العموم، ترتفع فيها درجة الحرارة لتصل في بعض الأحيان إلى أكثر من أربعين درجة مئوية، وتنزل إلى دون الصفر أحيانا أخرى في فصل الشتاء، تبعد عن مدينة سبتة بمائة كيلومتر وعن تطوان بستين كيلومتر. وهي ذات موقع استراتيجي واقتصادي لمنطقة (جبالة). وكانت لها أهمية خاصة في المخططات العسكرية الاسبانية «لما تمثله من رمز تاريخي وديني بالمنطقة، ولما أحاط بها من غموض، ولاستعصائها على الأروبيين الذين فشلوا في ولوجها حتى سنة 1920 م، ولم تغب هذه الأهمية عن بال منظري الاستعمار الاسباني بالمغرب»([7]). وقد برزت هذه الأهمية في الوثائق والكتابات الاسبانية التي تحدثت عن احتلال المدينة، كما يبرزها المنطق العسكري الذي يجعل الاحتلال الشامل أمرا مفروضا لأحكام السيطرة على جميع المناطق([8]).

فقد كتب (آنخيل كابريرا ANGEL CABRERA) الذي زار المدينة سنة واحدة بعد دخول الجيوش الاسبانية إليها مبرزا الاستراتيجية والاقتصادية الكبرى للمدينة، ما يلي: «إن شفشاون ليست بالمدينة الكبيرة، إلا أن لها أهمية قصوى بالنسبة لاسبانيا، سواء لموقعها الاستراتيجي أو لكونها أكثر المدن الداخلية بمنطقة جبالة، ولكونها إحدى المراكز الصناعية الأكثر أهمية بالمغرب الشمالي، فخصوبة أراضيها المسقية المملوءة بشجر التين والرمان والقسطل والخروب، ذوات شهرة في البلاد، كما هي مشهورة منتوجات مناوليها العديدة، ومطاحنها المخصصة للزيتون، وكلها تحركها المياه المتدفقة من المناطق الجبلية القريبة، ثم إن الجلابات المصنوعة من الصوف السوداء المزينة بنقط بيضاء، والتي لا تنتج إلا في شفشاون، تعرف إقبالا كبيرا لدى الجبليين، باعتبارها أحسن الجلابات وأجودها، كما أن جميلات تطوان وطنجة يتباهين بالدملج الشفشاوني، وهو من اختصاص الصاغة اليهود في نفس المدينة»([9]).

ويرى بعض المؤرخين أن مدينة شفشاون الحالية هي تجديد لمدينة رومانية كانت تدعى (أبينوم) أو تجديد لمدينة أخرى كانت توجد بجوارها وقريبة من موضعها الحالي، كانت تسمى (البليدة) وما زالت بعض أسوار هذه البليدة قائمة إلى يومنا هذا.

«والمنطقة ما تزال تحتفظ ببعض الآثار القديمة التي ترجع إلى ما قبل التاريخ الإسلامي مثل القنطرة الرومانية "بتلمبوط" (وهي قرية تابعة لقبيلة بني زجل الغمارية تبعد عن المدينة بنحو 25 كيلومتر) وقنطرة مدشر (ماكو) تشرف على المدينة. والقنطرتان تشبهان إلى حد كبير القنطرة التاريخية بحي الصبانين بمدينة شفشاون»([10]).

وكان يوليان الغماري والياً على المنطقة من قبل القوط بإسبانيا قبل انطلاق الفتح الإسلامي على يد موسى بن نصير وطارق بن زياد منذ 88 ﻫ ولا يزال مسجد موسى بن نصير قائما على ربوة بين شفشاون وتطوان وكذلك مسجد (الشرفات) المنسوب إلى طارق بن زياد بقبيلة الأخماس شرق المدينة.

«ومن المعروف لدى المتقدمين في السن من رجال القبائل المجاورة للمدينة أنها بنيت وهدمت عدة مرات، وقد سمعت ذلك من بعضهم شخصيا، وربما يكون وجود أطلال يرجع عهدها إلى ما قبل تأسيس المدينة الحالية بأسفلها في المكان المسمى (قاع الدشر) من الدلائل عليه... من ذلك ندرك أن شفشاون لم تكن خالية من السكان وأن الشريف أبا الحسن بن أبي جمعة عندما اختارها في القرن التاسع الهجري حصنا للمجاهدين»([11]).

من قلعة للجهاد إلى إمارة مستقلة
كان استقرار مدينة شفشاون مرهونا بتحصين الثغور المواجهة للعدو وبالسهر على تفقد أحوالها وتزويدها بما تحتاج إليه من عدة ورجال. وكانت هذه المراكز تحتاج دعما ماديا وبشريا، خصوصا وأن البرتغاليين كانوا يسيطرون على أجزاء كثيرة من السهول القريبة من المدينة. ومما يؤسف له أن الأطماع البرتغالية وجدت جوا ملائما في ضعف السلطة المركزية وتفككها، وقيام حروب داخلية، وأمام هذا الوضع المزري فكر أفراد من الشعب المغربي المسلم في الاعتماد على أنفسهم وإعلان الجهاد لوقف الزحف اﻟﺼﻠﻴﺒﻲ الذي يهدد الوطن والمواطنين.

وكرد فعل لتهاون الجهاز الحكومي المركزي انبثقت إمارة الرواشد بقيادة علي بن راشد، هذه الأسرة كانت بيدها مقاليد الأمور في هذه المنطقة لنحو قرن من الزمان (876-969 ﻫ/1471-1564 م)، وكانت تشمل مناطق من جبال غمارة وبعض البلاد، وعلى نحو مائة كيلومتر من شفشاون غربا كان يوجد معسكر (الخروب) بقبيلة (جبل حبيب) وهذا المعسكر يشرف مباشرة على السهول المتصلة بمدينة أصيلا وطنجة، وهذه الناحية الغربية من الإمارة الراشدية كانت تشمل قبائل بني حسان وبني ليت وبني يدر وبني سعيد وبني عروس، وجبل حبيب وبني زكار. أما الناحية الشمالية فكانت تشمل القبائل الغمارية الواقعة شمال شفشاون. وأما في الناحية الشرقية فكان نفوذهم يمتد إلى حدود منطقة إقطاع أبي حسون بباديس([12]).

ويرى المؤرخ البرتغالي دافيد لوبيس David Lopes «أن تأسيس مدينة شفشاون لم يكن الغرض منه إنشاء مدينة عادية، بل كان بمثابة رد فعل على الحملات المتوالية التي كان يقوم بها البرتغاليون بشمال المغرب، قام به الشرفاء العلميون الذين جعلوا من المدينة حصنهم المنيع بفضل موقعها الاستراتيجي بين الجبال، في ناحية بعيدة عن شاطئ البحر، الأمر الذي جعل منها (ضريح الإسلام) الذي لم يتمكن الكفار من الوصول إليه»([13]).

وتعتبر حومة (حي) السويقة أول ما شيد بالمدينة، ومساحتها 39.910 متر مربع، وما زالت على حالها باستثناء تغييرات طرأت على بعض الدروب والأزقة، والمنازل، والدكاكين، هذه الأخيرة التي تحولت اليوم لعرض الألبسة والأحذية التقليدية والحديثة، وبأعلى الحي جهة الساحة المعروفة (وطاء الحمام) بنيت القصبة وكانت مقرا للحكم، وبداخلها: المشور ودار السكنى، والمسجد، والقشلة وأروية الخيل والدواب، وكان يحيط بالقصبة والمدينة سور به خمسة أبواب وهي:

- باب القصبة
- باب السور الذي كان يعرف أيضا بباب الفرناشي
- باب الموقف
- باب الحمّار
- باب الهرموم.

بالإضافة إلى الثغرات التالية:

أ - نقبة دمنة المخزن
ب - نقبة وطاء الحمام
ج - باب النقبة في حي ريف الأندلس.

هذه الأبواب والثغرات ما زالت قائمة إلى اليوم باستثناء باب الهرموم (نسبة إلى أسرة أندلسية اندثرت) الذي هدم وأصبح مكانه ممرا يؤدي إلى حي الصبانين الذي توجد به قنطرة قديمة تعرف باسم (قنطرة البرطقيز) على وادي الفوارات نسبة إلى البرتغاليين، وقد اعتمد علي بن راشد في بنائه للقصبة والقنطرة على اليد العاملة للمجاهدين المغاربة والبرتغاليين الذين كان يأسرهم أثناء غزواته العديدة على المدن المحتلة. كما بنى برجا للمراقبة قرب الولي الصالح سيدي عبد الحميد خارج المدينة وجعله موازيا لبرج القصبة، واتخذ علما خاصا بالإمارة، وكان لونه أحمر.

ويرى الدكتور عبد الكريم كريم أن مدينة شفشاون قد «ظهرت كمركز للمقاومة الوطنية ضد الاحتلال الأجنبي منذ أن اتخذها المولى علي بن راشد قاعدة لجهاده ضد البرتغاليين، وتحفظ لنا المصادر التاريخية الكثير من المعارك التي خاضها هذا المجاهد ضد البرتغال، وحسب منظومة الكراسي فإن المولى علي بن راشد قد ثار ضد الوطاسيين وانتقد مهادنتهم للبرتغال، ورغم إخضاع ثورته فإن مدينة شفشاون ظلت تحتل مكانة مرموقة في حركات الجهاد باعتبارها من الثغور القريبة من مراكز الاحتلال البرتغالي»([14]).

شن علي بن راشد على البرتغاليين حربا لا هوادة فيها، وكان جيش المجاهدين «يودع ويستقبل في حفل بهيج، يحضره الناس من داخل المدينة وخارجها وتصدح الموسيقى التي كانت تستعمل آلات الطرب المختلفة: كالأبواق الضخمة والطبول الكبيرة والمزامير الجبلية ذات الأنغام الشجية... وعند رجوع الجيش المجاهد وهو محمل بالغنائم، فكانوا ينظمون استعراضا لهذه الغنائم، يحضره أهل البلد جميعا برجالهم ونسائهم وأطفالهم وكانت تصدح الأنغام الموسيقية والناس في فرح وسرور... وهذا المظهر مما قلد فيه بنو راشد المظاهر التي عرفتها المدن الأندلسية»([15]).

وهكذا أضفى علي بن راشد على إمارته مظاهر الاستقلال وأعطى لنفسه حنكة الأمراء المستقلين وأحاط نفسه بمجموعة من المستشارين والفقهاء والطلبة ورؤساء القبائل. وأظهر كثيرا من الحزم، وساس منطقة حكمه سياسة جعلت المؤرخين فيما بعد يسمونه بكثير من الاحترام والتقدير.

ويكفي فخراً لهذه الأسرة الأمير إبراهيم الذي كان من ألمع شخصيات الأسرة الراشدية بشفشاون خلال القرن العاشر الهجري، وذلك لقدرته على تحمل أعباء عسكرية وسياسية بحكمة ومهارة، والسيدة (الست) الحرة حاكمة تطوان وهما ابنا علي بن راشد من أم اسبانية من مدينة (فيخيت دي لافرونتيرا Vejez delafrontera) أسلمت وأطلق عليها اسم (لالا الزهرة).

وكانت السيدة (الست) الحرة قد حظيت بشهرة واسعة النطاق في الشمال الغربي من افريقيا الشمالية، وهي ممن اعتنى المؤرخون الأجانب بالحديث عنها والتعرض بالذكر لأيام حكمها بتطوان، ولعل شهرتها قامت على عدة اعتبارات، فهي ابنة أمير شفشاون علي بن راشد، وهي في الوقت نفسه زوجة قائد ومؤسس تطوان الحديثة محمد المنظري. وهي حاكمة تطوان ونواحيها لما يزيد على ثلاثة عقود ونيف من الزمن، أي منذ زواجها عام 916 ﻫ/ 1510 م إلى غاية 949 ﻫ/ 1542 م، وتروي الأخبار سواء البرتغالية أو الاسبانية، أن هذه السيدة النبيلة كانت تتمتع بذكاء نادر وأخلاق سامية هيأتها لتسلم زمام السلطة، وذلك بسبب التعليم الذي تلقته من أشهر العلماء ورجال الدين في عصرها، وأعلنت الجهاد كأبيها ضد المعتدين البرتغاليين المحتلين للثغور المغربية برا وبحرا، وصمدت في وجههم لفترة طويلة من الزمن([16]).

كان القاضي محمد الكراسي أديبا شاعرا تولى خطة القضاء بمدينة تطوان، له (عروسة المسائل في ما لبني وطاس من الوسائل)، قال منتقدا المولى علي بن راشد عندما ثار على الوطاسيين قائلا:

وثار في شفشاون وصالا
ذاك الشريف العادم المثالا
دعا لنفسه وجاءه الطمع
أن يدخل الحضرة من حيث طلعا
على بلاد مغرب سلطانا
خاف وخاب رأيه ما كانا
تحركت لداره الجنود
فاس ومكناس لهم بنودا
فانحصر بن راشد في الجبل
بالانقطاع وتمام الحيلا
فطلع السادات للشريف
لاموه عما كان من تخريف
دخل في الطاعة والجماعة
وتبعت شفشاون بالطاعة([17])

أما بالنسبة لإمارة الرواشد، فقد سادت من سنة 876 ﻫ إلى سنة 969 ﻫ/ 1417-1561 م، توارث الحكم فيها ثلاثة أمراء وهم: علي بن راشد المؤسس (876 ﻫ إلى 922 ﻫ) ثم ابنه إبراهيم بن علي بن راشد (922 ﻫ إلى 946 ﻫ) وشقيقه محمد بن علي بن راشد (946 ﻫ إلى 969 ﻫ) وإليه ينسب بناء المسجد الأعظم بساحة وطاء الحمام حسب ما ذكر الباحث الأستاذ سعيد أعراب([18]).

وبغياب أسرة الرواشد، أصبحت المدينة تابعة لحكم السعديين، فعين السلطان عبد الله الغالب القائد عبد الكريم العلج حاكما على المدينة ونواحيها ثم بنوه من بعده، ولم يعد لأفراد هذه الأسرة ذكر بالمدينة إلى اليوم.


سقوط الأندلس ومحنة الموريسكيين
يقول الأستاذ المرحوم محمد عبد الله عنان: «لم تستطع جماعة إسلامية أن تتنبأ بمصيرها سوى الأندلس، فهي قد شعرت به منذ أيام الطوائف في أواخر القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) وأخذت تترقبه من حين إلى أخر في صبر وفزع، مستسلمة إلى قدر الله لها مجاهدة ما استطاعت في الدفاع عن نفسها، ملتجئة منذ أوائل القرن السابع الهجري إلى معاونة شقيقتها المسلمة عبر البحر، وهي لم تنس مطلقا أن أخواتها هؤلاء البواسل، فيما وراء البحر قد أنقذوها من الفناء المحقق، وذلك حينما اشتدت وطأة الجيوش الإسبانية عقب سقوط طليطلة (479 ﻫ/ 1085 م) على ملوك الطوائف وشعروا بأن الكارثة قد أضحت على وشك الوقوع»([19]).

هكذا عاشت الأندلس قلقة مضطربة تحت حكم المرابطين ثم الموحدين الذين كان انهزامهم في معركة العقاب 609 ﻫ وانشغالهم بخلافاتهم على السلطة سببا في انهيار الأندلس وإغراقها في بحار من الدماء بسبب الصراعات الطائفية والسياسية، وبدا لأهل الأندلس أن كل شيء بدأ ينذر بالسقوط والانهيار، وكثر المتآمرون وطغى الاستبداد وكان هجوم النصارى يتوالى على القواعد الأندلسية شرقا وغربا وجنوبا. ولكن رغم كل هذا فقد كانت الأسباب تهيئ لظهور دولة جديدة بغرناطة تضم ما تبقى من المسلمين بأرض الأندلس، وهي دولة بني الأحمر التي دام ملكها ما يزيد على قرنين من الزمن (635 إلى 897 ﻫ). ولكن كيف الصمود وجحافل المقاومة الاسبانية تحاصرها من جميع الجهات إلا الجهة المطلة على المغرب الذي فتح ذراعيه لاستقبال المهاجرين الذين ضاقت بهم سبل العيش هناك وخصوصا أهل العلم والثقافة والصناع وأهل الحرف والتجار، لأن الرياح بدأت بما لا تشتهي السفن، حيث سيطرت الفردية وكثرة الأطماع وحيكت المؤامرات والدسائس والخيانة داخل بلاط بني الأحمر إضافة إلى التدخل النسوي في شؤون الدولة والاغتيالات السياسية والانغماس في الملذات ومهاوي الرذيلة وإهمال الولاة لشؤون المسلمين حيث صرفوا جهودهم في خصومات تافهة فانتشر الخذلان والانحلال والميوعة وانعدمت الوحدة مما عجل بالسقوط الذي ما زال يثير العديد من الأسئلة.

لقد سقطت غرناطة، وبسقوطها انتهى الوجود العربي في الأندلس، وبدأت مطاردة المسلمين قتلا وتشريدا، وتنصيرا، وكان الاضطهاد الكنسي موازيا لجميع الحملات المتربصة بهم في كل مكان، واتخذت سمة الاستماتة والعنف داعية إلى وجوب إبادة المسلمين وإخراجهم من الأندلس مهما كلف الثمن، وصاحب هذا التدخل الكنسي الفصول النهائية لمأساة الوجود العربي الإسلامي في اسبانيا. ففر من فر وهاجر من هاجر وبقيت الفئة المغلوبة تقاوم دفاعا عن نفسها ودينها ولغتها. ويورد المقري في كتابه: "أزهار الرياض" وصفا مؤثرا ومؤلما لما حل بالإسلام والمسلمين من طرف هؤلاء القساوسة الطغاة حيث يقول: «فلو رأيتم ما صنع الكفر بالإسلام وأهله في الأندلس، لكان كل مسلم يندبه ويبكيه، فقد عبث البلاء برسومه وعفى على أقماره ونجومه ولو حضرتم من جبر بالقتل على الإسلام وتوعد بالنكال والمهالك العظام، ومن كان يعذب في الله بأنواع العذاب، ويدخل به من الشدة في باب ويخرج من باب، لأنساكم مصرعه، وساءكم مفظعه وسيوف النصارى إذ ذاك على رؤوس الشرذمة القليلة من المسلمين مسلولة، وأفواه الذاهلين محلولة، وهم يقولون: ليس لأحد بالتنصير أن يمطل، ولا يلبث حينا ولا يمهل وهم يكابدون تلك الأهوال ويطلبون لطف الله في كل حال»([20]).

وتبلغ المأساة مداها بوصول الملك كارلوس الأول القادم من المانيا لوراثة العرش الاسباني، حيث خير المسلمين بين الموت أو التنصير، فلجأ البعض إلى التظاهر بالنصرانية، وفضل الآخرون الهجرة نحو شمال افريقيا. ثم أعقبه أمر الملك ﻓﻴﻠﻴﺒﻲ الثالث بالطرد بين سنتي (1609-1614 م) «ويقدر عدد من هاجر في هذه الفترة بحوالي أربعين ألف شخصا منها عشرة آلاف حلت بتطوان عام 1613 م وذلك حسب تقرير (الدوكي دي ميدينا سيدونيا)»([21]). ووفقا لما ذكره صاحب كتاب "نبذة العصر في أخبار ملوك بني نصر" «أن أهل مالقا خرجوا إلى بادس وأهل الجزيرة الخضراء إلى طنجة وأهل رندة وبسطة وحصن موغر وقرية كاردوس وحصن مرتيل إلى تطوان ونواحيها، وأهل ترقة إلى المهدية وأهل مسنين إلى الريف، وأهل لوشة وقرية الفخار والبعض من غرناطة ومارشينا والبخرات إلى قبيلة غمارة، وأهل بررة وبرخة وبوله وأندراش إلى المنطقة الواقعة بين طنجة وتطوان، وانتقل بعضهم منهم إلى قبيلة بني سعد (وادي لو)، وأهل مرينية إلى أصيلة ونواحيها، وأهل بلش مالقا وشيطة وشريش إلى مدينة سلا، وأهل طريفة إلى آسفي وآزمور وآنفا»([22]).

وتؤكد الدكتورة آمنة اللوه على وجود الأندلسيين في قرى وجبال الريف، ففي أجدير (إقليم الحسيمة) مثلا تذكر أن أهلها وعشيرتها كانوا يتحدثون عن مدشر هناك اسمه (إِنْدْلُوسُنْ) وكانوا يكونون فيما بينهم جالية إثنية تكاد تكون مستقلة عن الآخرين، شأنهم في ذلك شأن إخوانهم المنتشرين في بقية أنحاء المغرب وغير المغرب([23]).

ولاحظ الباحث حسن اﻟﻔﻴﮕﻴﮕﻲ أن الشمال الغربي المغربي كان منطقة استقبال وإيواء للهجرات الأندلسية، ليس فقط بمدينة تطوان وشفشاون والقصر الكبير، بل في البوادي أيضا، وليست هناك أي دراسة خاصة تجمع شتات المعلومات عن الهجرات ومواطن الاستقرار بتلك البوادي، بل هناك فقط بعض الإشارات والملامح التي لا تغني عن البحث المستفيض([24]).

شفشاون الأندلسية
لشفشاون علاقة وثيقة بالأندلس والأندلسيين، وكان لاستقرار هؤلاء بها الأثر الكبير في تطورها وامتداد بنيانها، فقد عرفت ثلاث هجرات أندلسية:

الأولى: سنة 888 ﻫ/ 1483 م، فأضافت إلى المدينة حومة (حي) الخرازين وحومة الصبانين (ما زالا يحتفظان بطابعهما الأندلسي).

والثانية: سنة 898 ﻫ/ 1493 م حيث حلت بها مجموعة من الأسر الأندلسية وكانت السبب في إنشاء حومة ريف الأندلس، حيث كانت تغطي حوالي ثلث سكان المدينة. (ما زالت معظمها تحتفظ بطابعها الأندلسي، شكل الأقواس والأزقة الضيقة الملتوية والمنازل بأبوابها الكبيرة والقصيرة والنوافذ ذات الشبابيك الحديدية وبئر المياه في فناء المنزل والأشكال الهندسية الغرناطية داخل الغرف الكبيرة، ذات السقف المزخرف خشبه بألوان زاهية.

والثالثة: كانت سنة 907 ﻫ/ 1502 م والتي نتج عنها إنشاء حومة جديدة بالمدينة وهي حومة العنصر المؤدية إلى منبع الماء المعروف "برأس الماء" خارج سور المدينة([25]).

أما العنصر اليهودي فقد دخل مع المهاجرين الأندلسيين وكانت تسكن في البداية بمكان يدعى «إد بنعبد الله خارج سور المدينة قرب باب الحمار، ثم بعد ذلك انتقل اليهود من هذا المكان إلى "الملاح" داخل سور المدينة على مسافة قصيرة من دار الإمارة. وكان ذلك في بداية النصف الثاني من القرن العاشر الهجري على أيام السلطان عبد الله الغالب السعدي، وفي الملاح الجديد أنشأوا لهم بيعتين غاية في الفخامة، ولهم بشفشاون مقبرة مسورة شرق المدينة عدوة وادي شفشاون، وهي ما تزال على حالها إلى يومنا هذا»([26]).

ولم تقتصر هجرة الأندلسيين (مسلمون ويهود) على المدينة فقط، بل كان هناك من فضل الإقامة والاستقرار في قرى ومداشر القبائل الخمسية والغمارية المحيطة بمدينة شفشاون، وقد قدموا إليها من اشبيلية، وغرناطة ومالقا، ومورسيا، وقرطبة، وجيان، وشاطبة وغيرها، حاملين عاداتهم وتقاليدهم، وحسب بعض الشهادات، فإن ارتداء المرأة الشفشاونية في بعض المناسبات للبلغة ذات اللون الأسود المعبر على علامة الحزن لفقدان غرناطة، وقد حافظت تلك الجماعات على أسمائها وألقابها الأندلسية حتى اليوم، ومنهم من احتفظ بمفاتيح منازلهم التي حملها أجدادهم على سبيل الذكرى.

ويرى الباحث الاسباني غيير موغوثالبيث بوستو في كتابه "الموريسكيون في المغرب" أن العائلات الأندلسية «تحتفظ بذكرى أسلافها الإسبان وذكرى الوطن البعيد المتلاشية الآن إلى حد ما دون أن تفقد إسما مسيحيا كما في: الطريس TORRES أو موراليس MORALES أو بايتا BAEZA أو غارثيا GARCIA والذي لا يرتبط بأي مضمون ديني أو عنصري، ولا يفصله عن إسلامه العميق أو عن مغربيته الذاتية. كذلك كان هؤلاء الذين يذكرون أسلافهم الإسبان فخورين بأصولهم العربية وأكثر من هذا فإن مجرد حمل لقب أندلسي المنتشر جدا يشكل تبريرا بسيطا للإحساس بالفوقية على بقية الناس»([27]). وأضاف «بأنه من الممكن لدى بعض العائلات وثائق أو أوراق كالتي أظهرته له أسرة الحضري في شفشاون»([28]).

وقد أورد في كتابه 1028 اسما من أصل أندلسي، عدد العائلات التطوانية وحدها 365 أسرة، انقرض منهم 258 غالبيتهم بسبب مرض الطاعون الذي اجتاح تطوان سنة 1677 م حيث لم يبق في الواقع أكثر من 107 عائلة([29]).

أما بالنسبة للأسر الأندلسية الشفشاونية، فنذكر منهم (المدينة ونواحيها):
أجوليان- مورسيا- الشطبي- الكراسي- الكوطيط- الحضري- الأندرشي- الأزاريقي- برو- البانزي- البشاري- بردال- الرايس- الطرياني- الريوس- الرويز- الرميز- الرندة- الرندي- الردندو- اللوشي- الليزي- ماشان- مايو- مارصو- المدور- مرون- المالقي- ملوك- النالي- فلون- الفخار- قرمونة- القلينة- قنديل- القسطلي- القشقاش- القواس- السراج- سكورة- شارية- الشربي- الشطون- الشقور- الوجاي- باجو- البازي- أجانا- الأندلسي- أرماز- بن جمعة- جنينو- الخراط الدقون- الداموس- الرميز- الربون- زرقيق- الروشة- الزكري- الطرمو- كريش- الكرماز- لوشة- ماوان- المرسي- مرشينة- مركان- منطورو- فلون- القرفي- قريط- القصار- قشوشو- البراش- البربرو- بن فريحة- بن فرج- البسطي- الربون- مسكطو- الفلون- قريرو- القسطال- القيطبون- سريسار- امفرج- عبدون- عدرون- الغري- بيرميجو- حجاج- البناينو- قشتول- الغرناطي- الغراندي- هراندو- رعنون- بوعسل- الشودري- بيصة- بن قلو- بن سلام- بن رقاد- بن روسو- الزيدي- طردان- طنانة- الهراس- الهليلي- الهوتي- الهيشو- السيني- شلبي- الشلي- الشبلي- السردوني- القنار- قريش- قليلو- الفقاي- الفزاري- الغدير- غجو- الغروش- زنيبر- بوقرنة- الثاير- أغزال- أغزول- أحبي- هرون- مرزوق- مايو- البنزي- دكون- خيرون- سعدون- حيون- باطيس- يرو- الحاكي- الحرفي([30]).

ويرى الباحث محمد قشتيلو أنه: «من الصعب جدا تحديد عدد الموريسكوس الذين هاجروا من اسبانيا إلى المغرب، وذلك نظرا لكونهم طردوا في فترات متعددة، وكذلك هناك من أحصي من طرف السلطات الاسبانية عند الطرد لكنه لم يصل إلى المغرب بعد تجريده من أمتعته وإلقائه في البحر من طرف أصحاب المراكب، كما أن هجرات الموريسكيين كانت في بعض الأحيان اختيارية»([31]). وقد كون المنظري الغرناطي مؤسس تطوان جيشا كان مركزه قبائل الأخماس محصنا بجبالها ويكونه أهل هذه القبائل.

كما أننا نجد الكثير من أسماء عائلات أندلسية غيرت لقبها بعد الأحداث التي قام بها الأندلسيون في القرنين 16 و17 م، أو عن طريق المصاهرة، وأصبح التمييز بينها وبين أسماء أخرى أقل أو أكثر تشابها مع العالم الإسلامي([32]).

كان لهؤلاء الأندلسيين بالمدينة ونواحيها الأثر البارز في ازدهار حركة الصناعة والتجارة والعمران والفنون والآداب والموسيقى التي عرفتها المنطقة عبر حقب متلاحقة، فقد وجدوا في المدينة النهر الجاري من أعلى المدينة إلى أسفلها، والمحراث الطيب، فهي تحيط بحزام أخضر من بساتين وعراصي وجنان (لوبار، نسبة إلى الولي الصالح: أبو الحسن اللبار، قاع ادشار، غاروزيم، توراغين).

والسور الحصين بأبوابه المرتبطة باتجاهات الطرق إلى ضواحيها وبواديها يضمن لها الأمان والاطمئنان. فأحدثوا تطورا مهما في إعمار المدينة والحفاظ على الطابع الأندلسي في البناء والتشييد طبقا لمقتضيات جغرافية حضرية تستجيب لمعايير التخطيط مرعاة للشمس والمطر والريح واتجاه القبلة.

ولاحظ المقري: «أن أهل الأندلس تفرقوا بعد الفتنة في المغرب الأقصى، فمال أهل البادية إلى ما اعتادوه، فاستنبطوا المياه وغرسوا الأشجار وأحدثوا الأرحى الطاحنة بالماء وعلموه أهل البادية أشياء لم يكونوا يعلمونها فكثرت مستغلاتهم وعمت الخيرات، ومال أهل الحواضر إلى المدن فاستوطنوها ففاق أهل الصنائع أهل البلاد وصيروهم أتباعا لهم متصرفين بين أيديهم ومتى دخلوا في شغل عملوه في أقرب مدة وأفرغوا فيه من أنواع الحذق والتجويد»([33]).

لقد حملوا معهم من منفاهم خلاصة حضارتهم الأندلسية، متشابهون بأصلهم الأندلسي ودينهم الإسلامي ومختلفون من حيث طبقاتهم الاجتماعية والمناطق التي قدموا منها وتاريخ وصولهم إليها، فكانوا مضطرين إلى إدارة شؤونهم بأنفسهم.

العمران
إذا كانت مدن فاس وسلا وتطوان قد استقبلت الفئات الميسورة من المهاجرين الأندلسيين، فإن نصيب شفشاون كان من الطبقة المتوسطة في غالبيتها، والتي آثرت الاستقرار والجهاد ضد هجمات البرتغاليين والاسبانيين، ويرى أحد الباحثين أن نمط البناء في شفشاون «قد لا يختلف عن غيره من المدن المغربية العتيقة إذا نظرنا إليه من حيث تشييد الأسوار، وترتيب الأبواب وتوزيع الأحياء، وتنظيم الطرقات والأزقة والدروب، كما قد نلاحظ فوارق كبرى على مستوى الفضاءات الداخلية ووظائفها الاجتماعية، ما عدا كون طراز البناء يتسم بالبساطة والتقشف، ولا ينافس القصور الفخمة والمنازل الباذخة»([34]).

ولعلها المدينة الوحيدة التي لا زال فيها ميدان هندسة البناء تراث أندلسي، بمنازلها المسقفة بالقرميد ونوافذها الخارجية، وتعلوا أبواب الدور والمساجد حنايا نصف دائرية مع ناتئة، وتدعمها أعمدة صغرى على الجانبين.

وتتميز منازل الأندلسيين بالمدينة (آل الحضري، والسمار وامفرج، وشهبون والبردعي، والعاقل وخيرون والهراس والورديغي وكريكش وغيرها بحي ريف الأندلس، والريسوني والأيسر والهبطي ومنازل الشرفاء العلميين بالقوس ودار القاضي العلمي بحي السويقة وغيرها في أحياء أخرى كالعنصر والصبانين والمدقة وحي السوق والخرازين). بكبر مساحتها، وهي غالبا ما تتكون من طابقين، إضافة إلى السطح، ويتم توزيع المجال انطلاقا من فناء الدار الذي تشرف عليه الغرف والدرج بينما توجد المصالح والمدخل في منأى عن الفناء المفتوح أو المكشوف: بئر ماء للشرب والطهي، ويتم تطهيره ومعالجة مياهه بالجير، إضافة إلى مرافق ضرورية، ومطبخ ومخزن لحفظ الطعام، الحبوب، القطاني، الزيت، التين المجفف، الزبيب، الخليع، العسل، السمن، ولحم القديد، والصامت (شراب يصنع من العنب).

وتتميز واجهة المنزل بباب واسع مفتوح على الدرب أو الزقاق يتلوه أسطوان ينفصل عن وسط الدار (مساحته لا تزيد في المتوسط عن 3 في 4 متر) باب يدعى (باب الفصيل) وبينهما دكانة للاستراحة. وبعد اختراقه تصل إلى فناء المنزل وهو واسع ومكشوف مربع الشكل في الغالب، منفتح إلى أعلى تنفتح عليه الغرف ذات السقف العالي، وفي وسطه قطع خشب مربعة الشكل مزخرفة بألوان مختلفة يغلب عليها الأحمر والبني، والأروقة الجميلة، وبين الطابقين جناح مستطيل منعزل يسمى (النباح) تأوي إليه الأسر في فصل الشتاء وهو ذو سقف منحن يصعد إليه بواسطة درج ضيق، وله ممر ثاني يربطه بالغرف عبر باب يخترق الحائط الذي يفصل بينهما، أما فناء المنزل فيشكل الهيكل الرئيسي للمنزل حيث يشرف عليه كل الغرف والمصالح، وتتقابل الغرف فيما بينها، أما الدرج فيكون إما في الجهة اليمنى أو اليسرى غير بعيد عن المدخل للصعود إلى الطابق الثاني.

كما أن أغلب المنازل الأندلسية في المدينة كانت ذات أقواس وبجانب أعمدتها (نادرا ما تكون مكسوة بالزليج الملون حسب ظروف صاحب البيت) مزروعات الأزهار والورود المختلفة وشجرة توت لتربية دودة القز التي أدخلها الأندلسيون إلى المغرب في نهاية القرن السادس عشر وبداية السابع عشر، وكانت مملكة غرناطة من أهم مراكز القزارة وصناعة الحرير خلال العصر الوسيط. وكانت تتعاطاها الكثير من الأسر الأندلسية إلى بداية القرن العشرين. وكان الحرير يستخدم في صناعة الكرازي والملابس والمناديل والستائر.

أما الغرف فكانت هناك غرفة للضيوف وهي منفتحة على الفناء مفروشة بأثاث يتكون من (الحيطي) المعلق على الجدران والمضارب والمخدات المطرزة وزربية، وباب كبير من دفتين وفي وسطهما باب صغير مقوس من الأعلى. وأحيانا تكون بدون باب إذا كانت في الطابق السفلي.

ثم غرفة للجلوس وتتميز بطولها وضيق عرضها، وتنفتح على الفناء، وتستعمل كذلك للأكل وعادة ما تكون قريبة من المطبخ ومن السقاية، والمخزن، ثم غرفة النوم وهي أهم مكان في المنزل الأندلسي، وتكون بالطابق العلوي، طويلة ومتوسطة في عرضها، وتظل بابها مغلقة ولا يدخلها أحد إلا للضرورة، ويوجد بها سرير من صنع خشبي أو أوروبي (النيكل) مسنود إلى الحائط، مذهب قببه الأربعة، يحيط به رواق شفاف من الجهات الثلاثة غالبا، وعليه عدد من الأفرشة تلامس بعضها سقف الغرفة، كما يوجد بها مرتفع صغير على شكل درجة، والأرض مفروشة بزربية غليظة الصنع من الصوف الملون يطغى الأحمر على باقي الألوان كما هو معروف في المدن العتيقة. ويوجد بها كذلك مرآة وساعة حائطية مستطيلة الشكل مثبتة على الحائط، إضافة إلى صندوق خشبي مستطيل ومزخرف بألوان مختلفة ويعد من صداق الزوجة، ويحفظ فيه ثياب الزوجين والحلي الذهبية والفضية والمال والوثائق، ويقفل بمفتاح خاص لا يفارق صاحبة البيت أو الزوج.

إن المرور عبر الغرف في الطابق العلوي، يتم عبر ممر طويل وضيق يطل على الطابق السفلي، وتطل على الممر نوافذ ذات شبابيك حديدية من الخارج وبويبات خشبية مزوقة بزجاج ملون من الداخل في شكل مثلثات ومستطيلات، وكان يطلق عليه (الزجاج العراقي)، كما أن هذه الغرف غالبا ما كانت تتوفر وما زالت على نوافذ مستطيلة أو مربعة مفتوحة على الزقاق أو الدرب لتوفير الإضاءة والتهوية، أما السطح فكان عبارة عن منتزه للنساء يجتمعن فيه كل مساء، وغالبا ما كن يعتنين بغرس أنواع الزهور كالفل والحبق والياسمين، ويتجاذبن الحديث عن أغراضهن الخاصة أو للسمر في فصل الصيف حيث يكون الجو حارا بالنهار. وكان مغطى في أطرافه بالقرميد الطيني البني، يفصل بينها ممرات ضيقة (الميازيب) لمرور مياه المطر نحو الأسفل والذي يتساقط على المدينة في فصل الشتاء، كما تكسوها أحيانا الثلوج. وعلى العموم فإن سطوح البيوت القديمة كلها من قرميد مقوس.

وكان في بعض المنازل صهريج مربع أو مستطيل (المعدة) لخزن مياه الشرب أو مياه الأمطار. أما الزخرفة فإنها تبدو من خلال الأقواس والأعمدة وأبواب الغرف، والأرض مبلطة يكسوها البياض، كما كانت الجدران الداخلية والخارجية هي الأخرى تبيض بالجير وأحيانا يخلط بقليل من النيلة.

والوصول إلى هذه البيوت في غالبيتها يتم صعودا أو نزولا، خاضعة لمقاييس محددة وأشكال مضبوطة وأبعاد محسوبة يؤكد عراقتها.

ترتبط هذه البيوت المتراصة فيما بينها عبر أزقة وطرق ومنعرجات ضيقة وملتوية تتخللها الدروب صعودا ونزولا، يمنة ويسرة، عبر أدراج تختلف في بنائها حسب المسافة الفاصلة بينها وبين الزقاق، وهي كلها مرصفة بالحجارة الناصعة، إضافة إلى الأقواس المبثوثة عبر الأزقة والدروب، وقد أطلق اسم (القوس) على بعض الدروب والأزقة (قوس الشرفاء العلميين- قوس باب العين- قوس الحضري- قوس الهوتة- قوس العنصر- قوس الخرازين- قوس السويقة- قوس الصبانين...) وقد ارتبطت مبانيها وعرصاتها بالمياه المتدفقة عبر السواقي والقنوات، وزاد في بهائها وجاذبيتها تموجات نور الشمس مع الدروب والمنعرجات، ولعبة الضوء والظلال. وقد اشتهرت أسرة العاقل الأندلسية التي كانت تحمل اسم (بن علي)([35]) عند دخولها واستقرارها بشفشاون، بالبناء والتشييد، وإليها يرجع الفضل في تشييد العديد من المنازل ومسجد ريف الأندلس، والفندق الفوقي قرب ساحة وطاء الحمام والمعروف اليوم بفندق (اشفيشو) و"حمام البلاد" وهو أقدم حمام بالمدينة ويوجد أسفل نفس الساحة، ويوجد مسجد العاقل بحي ريف الأندلس الذي شيده أحد أبناء هذه الأسرة (ما زال قائما إلى اليوم) يحمل بصمات الهندسة الأندلسية، وقد أدركنا اسم (العياشي العاقل) رحمه الله والذي كان خبيرا (الأمين) في شؤون البناء، يفصل في القضايا والمشاكل والمنازعات التي كانت تحدث بين الجيران وبين البنائين وأصحاب المنازل([36]).

وكانت السواقي والأسيلة منشرة في أزقة المدينة وأحيائها، ما زال بعضها قائما إلى اليوم، ويبدو عليها مسحة جمالية بعدما تم إصلاحها وزخرفتها (الهوتة، باب العين، باب الموقف، ريف الأندلس، القنيطرة، المدقة، ساحة المخزن أمام فندق (بارادور)، رأس الماء، الصبانين).

كما قام الأندلسيون بتشييد باقي المساجد العتيقة؛ مسجد الصبانين- مسجد العنصر- مسجد سيدي بوخنشة (الخرازين) مآذنها تشبه مئذنة جامع ريف الأندلس، فهي ذات أبدان مربعة، بسيطة في بنائها خالية من الزخرفة، صغيرة في حجمها، ولم تكن هناك دور مجاورة تعلوها. مخالفة في ذلك مآذن: المسجد الأعظم ومسجد باب السوق وضريح مؤسس المدينة مولاي علي بن راشد، فهي مثمنة الزوايا، وبها من الزخرفة ما يميزها عن غيرها، وخصوصا مئذنة الجامع الأعظم ولا يشبهها إلا مئذنة جامع القصبة بطنجة، وكان الباشا أحمد الريفي في القرن الثامن عشر هو من أمر بتجديدها وبنائها على هذا الشكل، تأثيرا بالطابع التركي (اسطنبول بالخصوص) حيث أصبح باشا تطوان سنة 1734 م وضم إلى نفوذه شفشاون وطنجة والعرائش ووزان والقصر الكبير، استمر إلى سنة 1743 م حيث قتل في معركة ضد السلطان مولاي
عبد الله العلوي([37]). والحمامات والفنادق والأفران وعددها بالمدينة العتيقة 14 فرنا تقليديا. ودور الدباغة، وأقاموا الرحى لطحن الحبوب على المنحدر الكبير الذي يسلكه واد رأس الماء على نفس الطريقة التي شيد بها أجدادهم الرحى على نهر (خينيل بغرناطة)، وهي شبيهة بها في تركيبها وأدواتها وطريقة عملها، ولم يبق منها اليوم إلا اثنان نظرا لقلة الماء واستغلاله في مرافق أخرى، وظهور المطاحن الحديثة([38])، وإلى غاية سنة 1918 م أحصى (خوان دي لاسكيطي JUAN DE LASQUETTI) في تقريره حول المدينة ومجتمعها وبنياتها الاقتصادية، قبيل دخول الاستعمار الاسباني إليها بسنتين فقط: 21 رحى لطحن الحبوب مع ذكر (ملاكيها). 13 رحى لتعصير الزيتون مع ذكر ملاكيها كذلك و(1000 منزل مع ذكر ملاكيها وموقعها وقيمتها بالريال الحسني) و5 فنادق باسمها وموقعها، وأسماء العائلات الشفشاونية وجذورها، وفي اعتقاده أن أهم الأسر الأندلسية المالكة الميسورة بالمدينة هي: أولاد الحضري، أولاد السمار، أولاد الأيسر، أولاد الغرندي، أولاد الغرناطي، أولاد كريكش([39]).

الزراعة والصناعة والتجارة
كان دور الجالية الأندلسية بارزا في المجال الفلاحي وتقنية السقي، فاعتنوا بغرس أشجار الزيتون والفواكه كالبرقوق والتين والرمان والعنب والسفرجل وحب الملوك، وكيف ننسى البرقوق البلنسي والفلفل الأحمر الذي كان يزرع بكثرة في منطقة ماكو ويجفف ثم يدق بالمهراس ويصدر إلى فاس، وعرف وما زال (بالشاونية) نسبة إلى مدينة شفشاون، والرمان السفري والتين السفري، والعنب والمشمش الذي كانت تتميز بها مدينة شفشاون إلى أيامنا هذه، والبرتقزي نسبة إلى البرتغال، كما طوروا وسائل الزرع والسقي التي استحدثوها طبقا لما كان سائدا في المناطق التي نزحوا منها، ولم يقتصر ذلك على سكان المدينة فقط بل وحتى أولئك الذين اختاروا الإقامة في المداشر القريبة منها كقبيلة (الخزانة) الخمسية وبني رزين الغمارية، التي تتجسد فيهما عادات وتقاليد أندلسية إلى اليوم. فاستعملوا تقنيات أكثر تقدما في مجال تطوير الفلاحة كتذكير التين، وتلقيح الأشجار، وطرق تحلية الكروم، وطرد الطفيليات والدود من أشجار الكمثري والزيتون، والاعتناء بغرس أنواع الأزهار والورود على أطراف العراصي والبساتين، وكانوا يقومون بتقطيره، وقد اشتهرت بعض الأسر بذلك إلى اليوم في المدينة وضواحيها، إضافة إلى قطع الخشب وطبخ الفحم في الجبال المحيطة بالغابات، ومما كانت تتميز به المدينة والقبائل المجاورة لها وما زالت إلى اليوم هو الاهتمام بإنتاج زيت الزيتون والاحتفاظ به في المنازل طول السنة وأحيانا يتفاوتها. «ولأهلها إتقان في جميع ما يصنعونه»([40]).

كما أنعشوا الصناعة مثل الدباغة وصناعة الحرير والصوف والنقش على الخشب والدرازة، وصناعة الفسيفساء، وأصبح المجتمع الشفشاوني يتكون من الحرفيين، كالخرازين والدباغين وأرباب الدرازات والحدادين، والبنائين، والحمارين والأجراء الذين كانوا يعملون عند أصحاب هذه الحرف. وكان المحتسب يتولى التنظيم الاقتصادي للمدينة، يأتمر بأمر القاضي، ويقوم بالإشراف على مراقبة الأسواق.

أما في مجال الصناعة، فإن أول ما يثير الانتباه في المدينة هو الحفاظ على حرفة الدرازة بشكلها التقليدي وتقنية الصناع في نسيج الجلاليب الصوفية والتي ما زالت تشتهر بها المدينة إلى اليوم، وكان التجار من أهل تطوان والبوادي يقصدونها لاقتناء الجلاليب الشفشاونية، إضافة إلى البلاغي (الأحذية) الرجالية والنسائية وهي متميزة بطابعها المحلي، وتلقى رواجا في الأسواق المحلية. إن الصناعة التقليدية التي استحدثتها الجالية الأندلسية بالمدينة وضواحيها زيادة على ما ذكر؛ الزربية الشفشاونية([41]). والبرنس الجبلي، والقشابة والشاشية التي لم تكن تفارق رؤوس النساء في البادية وما زالت، والمنديل المصنوع من الصوف أو القطن، والذي كانت تنسجه النساء في بيوتاتهن منذ القرن الخامس عشر وإلى اليوم رمزا من رموز حياكة النسيج الصوفي والقطني، بنفس الطريقة التي ألفوها في الأندلس.

وكانت بالمدينة أكثر من خمسمائة امرأة مختصة في فنون الغزل والنسيج، وكان لهن سوق خاص يعقد يومي الإثنين والخميس صباحا بعد صلاة الفجر يعرضن فيه بضاعتهن، قرب الجامع الأعظم جهة مدخل سيدي بلحسن قرب الزاوية الريسونية. حتى أصبح رمزا من رموز الجهة الشمالية، والحايك الصوفي والأغطية الصوفية (والكورزية) وهو حزام المرأة في البادية ما زال مستعملا إلى اليوم.

كما أن حضارة الأندلس حاضرة كذلك في تطريز الألبسة النسائية والرجالية، ويختلف فن الطرز المغربي من مدينة إلى أخرى، ولكن مدرسة شفشاون كأختها في تطوان عرفت بلونين معروفين هما:

أ - التنشيفة: ويستوجب وجود أحد عشر لونا ويطرز على ثوب حريري ويكون له وجهان (المزلج) و(المرخم) وهو لا يزال موجودا اليوم وينجز بآلة الخياطة.

ب - التعجيزة: يكون خاصا بالإزار الذي يشترط أن يكون لونه أصفر وأبيض، وهو جزء من (الشوار) الخاص بالعروس، ويوجد كذلك في المخدات، ويتميز بطرازات رشيقة.

وقد اشتهرت بعض الأسر الأندلسية في المدينة باختصاصها في حرفة من الحرف كأسرة العاقل وأبراق في مجال البناء وأسرة المريني وبن عياد وورياش في النجارة، وفن الزخرفة على الخشب، وأسرة السمار في الحدادة وأسرة بيصا في الخرازة، وأسرة زيان و�

إعداد: الأستاذ محمد القاضي
طنجة/ المغرب

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة