السبت، 7 يناير 2012

عن العصر «التربوي» الجديد...


هناك شبه إجماع وسط علماء التربية على أن خلايا التكوين التقليدية في المجتمع، وهي الأسرة والمدرسة، قد تخلت عن دورها في تربية الناشئة للتلفزيون الذي صار يصول ويجول في ميدان التربية والتكوين ويقوم وحده بمهمة نقل المعرفة والقيم للأجيال الصاعدة (بل وللأجيال النازلة كذلك).
وقد التقط المشاهد المغربي الذكي هذا التحول الكوكبي في مجال التربية فقال عن قناته التلفزيونية الثانية (التي يطلق عليها أهل «مختفون» اسم «الدوزيام») إنها صارت تساهم في وضع أسس انبثاق عائلة مغربية نموذجية جديدة: الأب نبحث عنه في «مختفون»، والأم خير ما يعبّر عنها هو «مدام مسافرة»، أما البنت فمجالها الوحيد هو «استوديو دوزيم»، في حين أن مكان الإبن هو «أخطر المجرمين».
وقد اعتقد بعض الغافلين (أو المغفلين، لا فرق) أن هذه الخيارات التلفزيونية نابعة عن الجهل بمجال الإعلام وأن القائمين عليها (بحكم ضعف تكوينهم الثقافي والمهني) وقعوا في خطأ ربط قيمة ما يقدمونه من مواد بمدى الإقبال عليه من طرف شركات الإشهار؛ لكن سرعان ما تبيّن بعد ذلك أن الأمر مقصود وأن النية قائمة لدى هؤلاء على إعادة تربية المجتمع ونشر قيم جديدة «متقدمة»، يتم إحلالها بالتدريج مكان القيم التقليدية «المتخلفة».
لذلك لم يكن من قبيل العبث أن نسمع بعض المجرمين الذين ارتكبوا جرائمهم مؤخرا وهم يقولون إنهم استفادوا (في السرقة أو في القتل) واكتسبوا الخبرة فيما قاموا به، مما شاهدوه في برنامج «أخطر المجرمين». بمعنى أن هذا البرنامج الذي يعتقد بعض متابعيه أنه أعدّ من أجل توعية الناس بأن الجريمة لا تفيد، هو في الحقيقة «مدرسة» لتعليم أنواع الجرائم وطرق ارتكابها المختلفة. الشيء نفسه يمكن قوله عن «استوديو دوزيم» الذي لم يعد الفتيان والفتيات يعتبرونه معبّرا عن لحظة ترفيه هامشية في حياتهم العملية، بل صار هو المركز وتحولت الأشياء الأساسية (في منظومتنا القيمية «التقليدية»، ومنها الدراسة، مثلا) إلى عبء لا يطاق بالنسبة لهم. وذلك في تناقض واضح مع ما أطلقت عليه وزارة التربية الوطنية «مدرسة النجاح»، حيث صار نموذج «استوديو دوزيم» هو «مدرسة النجاح» الفعلية، وصارت المدرسة «التقليدية» (العمومية، بوجه خاص) «مدرسة السقوط»؛ وبحيث صار المواطن، المغلوب على أمره وسط متاعب الحياة، حائرا بين تصديق الخطاب الحكومي الجميل المجرد، أو تصديق خطاب «الدوزيام» العنيف والمشخّص. عاجزا عن إدراك حقيقة أن الأمر يتعلق بخطاب تربوي جديد، يتولاه التلفزيون الذي صار تأثيره أقوى من تأثير المدرسة والوالدين ورجال السياسة أجمعين.
ويتأكد هذا التوجّه أكثر عن طريق «خيار» تلفزيوني آخر، بريء كل البراءة (من دم يعقوب)، وهو برمجة عشرة مسلسلات أو «تيلينوفيلات» (مكسيكية وتركية وكورية) مدبلجة في اليوم، يبث الواحد منها تلو الآخر، من ساعات الصباح الأولى إلى نهاية المساء؛ وإذا كان بعض المتقولين المغرضين يتوقفون – بسبب جهلهم للدور التلفزيوني الجديد- عند مضامين تلك المسلسلات قائلين إنها تقف على طرفي نقيض من قيم مجتمعنا وأنها تعمل على تخريبه، فلأنهم لم يدركوا الحكمة العميقة الكامنة وراء بثها، كما أدركها القيّمون على «الدوزيام»، وهي أن المواطن والمواطنة المغربيين ليسا اليوم في حاجة إلى المعرفة والثقافة والرفع من الوعي قصد حاجتهما المستمرة والمتواصلة إلى الترفيه، بما من شأنه أن يلهيهما عن مشاكلهما وعن معاناتهما اليومية من أجل توفير سبل العيش لهم ولعائلاتهم: وهل هناك أحسن من تلك المسلسلات لتحقيق مهمة جليلة مثل هذه؟
بقي هناك أمر واحد، هو السرّ في دبلجة كل تلك «التيلينوفيلات» إلى الدارجة المغربية؟ لقد اعتقد البعض أنها محاولة من القناة لنشر قيم غريبة عن مجتمعنا وسط أكبر قدر ممكن من الناس، لكن الحقيقة هي إدراك القيّمين على «الدوزيام» واعترافهم الضمني بإخفاق منظومتنا التعليمية التي صار الداخل إليها مولودا والخارج منها مفقودا يجهل التواصل مع العالم بأية لغة غير لغته الدارجة التي لا يفهمها سواه. أسيواه. أسيواه.
فليُعلِم الحاضرُ الغائبَ، ولنحضر أنفسنا جميعا لدخول العصر التربوي الجديد!


مصطفى المسناوي
المساء 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة