الأربعاء، 16 مايو 2012

مشاهد من مستقبل التعليم في المغرب


منير الحجوجي:
كثيرا ما تثيرني بعض المشاهد الحياتية البسيطة في ظاهرها، لكنْ الملتبسة على مستوى عمقها.. وكثيرا ما تمتلكني رغبة جامحة في الكتابة عنها، في محاولة لفهم، أو على الأقل، الاقتراب
من كل تلك الدلالات الكبرى الثاوية وراء تفاصيلها الصغرى..
سأحاول، في هذه الورقة، تقديم بعض المشاهد التي تكشف بعض آليات صناعة نخب البلاد.. بطبيعة الحال، يتعلق الأمر هنا بمشاهد تحتمل قراءات مختلفة.. فأنا ضد اختزال الأمور في واحد من أبعادها.. يبقى للقارئ، إذن، كامل الحرية في تأويل ما سأقدمه بالطريقة التي تناسبه.. ومع ذلك، وكما يقول بيير بورديو في كتبه «الورثة» (1964) و«التميز» ( 1979) و«الإنسان الأكاديمي» (1984) و»نبالة الدولة» (1988)، التي أعتبرها من أحسن ما كتب في العلوم الإنسانية في القرن الماضي، من الأفضل الإقرار بأنه من الممكن جدا توريث العالم، شريطة التوفر على المال، وأهم من المال، على الأدوات التربوية والإستراتيجية لإنجاح وتأبيد التحكم والقيادة..
المشهد الأول
في منتصف أحد أيام بداية الموسم الدراسي الحالي، وبينما كنت أنتظر إلى جوار معهد تعليمي نخبوي خاص أي عربة تنقلني من طريق إيموزار نحو وسط المدينة، أثار انتباهي مشهد يحمل في ما أتصور دلالات تاريخية كبرى (بالمعنى الهيغيلي المعروف الذي يفيد أن بعض مشاهد الحياة اليومية «العادية» و«المألوفة» تكون منبئة بتحولات هادرة حقيقية).. هاكم المشهد: اللقطة الأولى: طفلان صغيران (أنيقان جدا) يخرجان من بوابة المعهد ويتجهان، في نظام مهيب، نحو سيارة (مصفحة يمنع زجاجها العازل رؤية أي شيء بداخلها).. اللقطة الثانية: يدخل الطفلان إلى «القلعة» المحصنة ويأخذان مكانيهما دون أن ينبسا بكلمة واحدة. اللقطة الثالثة: يتسمر الطفلان أمام جهاز تلفزيون معلق أمامهما كان يبث حينها برنامجا فهمتُ، في الثواني القليلة التي تمكنت فيها من استراق النظر، أنه برنامج علمي أو تقني من النوع الجاد جدا.. اللقطة الرابعة: يغلق السائق الباب، دون أن يلتفت نحو الطفلين.. اللقطة الأخيرة: تنطلق السيارة العجيبة وينطلق الطفلان -في لا مبالاة تامة بتلصصي الهيغيلي- نحو مصيرهما المحتوم: مصير من يحضر لأن «يحكم» كل الأطفال الآخرين المحشوين، في الجهة الأخرى من طريق إيموزار، في مدارس «المخطط الاستعجالي» و»بداغوجيا الادماج» و»التأهيل التربوي الديموقراطي الحداثي»..

المشهد الثاني
أحالتني هذه الواقعة إلى واقعة أخرى عشتُها في أحد أيام سنة 2005 في الرباط. في تلك الفترة، كان أحد أصدقائي الأعزاء قد استضافني لكي أنشّط حصة داخل فصله في إحدى المجموعات التعليمية الخاصة في الرباط.. كان الأمر يتعلق بقسم السنة الثانية ثانوي، إذا لم تخنني الذاكرة.. كان الموضوع الذي اخترته هو «نظريات التواصل».. عندما دخلت إلى الفصل، صُدِمت بأشياء كثيرة، ومنها العدد المعقول جدا للطلبة والطالبات (كانوا تقريبا خمسة عشر).. وبعد التحية والشكر للصديق وللمؤسسة المستقبلة وللطلبة، بادرت إلى تقديم ما اعتبرته النظريتين الأساسيتين للتواصل.. شرحت أن النظرية الأولى تقوم على فرضية تحكُّم المرسل في الإرسال وفي مجموع الرسالة، فيما ترصد الثانية أكثر العناصر التفاعلية بين الأطراف المتواصلة.. وعندما طلبت من الطلبة أن يمنحوني أمثلة عن النظرية الأولى، تلك التي يكون فيها طرف واحد، هو المرسل، هو من يتحكم في مخارج ومداخل عملية «التواصل» كلها، كنت متيقنا (يا لذكائي الخارق!) أنهم سيعطونني المثال الأول الذي يخطر للتو على البال، والذي هو التواصل داخل العائلة المغربية.. ولكَم كانت صدمتي شديدة عندما أجابوني بأنه لا يمكن أن نتصور نسقا واحدا يكون تحت الرحمة المطلقة لطرف ما، كيفما كانت قوة هذا الطرف.. وعندما طلبت رأيهم في النسق العائلي المغربي، في محاولة مني «لاستفزاز» يقينهم هذا، أجابوني، بنباهة لن أنساها، أن حتى هذا النسق يشتغل بشكل تفاعلي ومركّب.. صمتت للحظة، ثم طلبت منهم الدليل على قولهم، فأعطوني أمثلة منتقاة بدقة كبيرة توضح كلها كيف أن القرار داخل العائلة (عائلاتهم) يُتّخَذ دوما عبر الحوار والتفاوض وتبادل الرأي والرأي المضاد.. كان هذا هو الدرس الأول الذي مزّق أحد حجب جهلي الحاد.. أما الصفعة الثانية فتلقيتها عند جوابهم عن سؤال حول نسق «التواصل الدولي»، الذي يبرهن على «صحة» نظرية الهيمنة المطلقة لمركز -مرسل قوي وكاسر (وكنت قد ألمحت إلى الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما) على مجموع الأطراف الضعيفة التابعة الأخرى.. لقد قالوا لي وبإجماع صادم: «إن العالم المتخلف، ومنه إفريقيا، يوجد بطبيعة الحال الآن في حالة تلقٍّ للمنتوجات والتقنيات والعلوم التي يصدرها الغرب إليه، ولكننا متيقنون، يا أستاذ، من أن نفس هذا العالم سيخرج في الخمسين سنة المقبلة من وضعية التلقي والاستهلاك نحو سياسة الإنتاج والإبداع والاستقلالية»!..
لقد صفعت لأنني لم أتلق في الكلية «العمومية» التي أشتغل بها مثل هذا الجواب طيلة الستة عشر سنة التي هي مدة «تدريسي» فيها.. إنه الفرق، «الضوئي»، بين تعليم عمومي يُلقّن الجهل وتعليم نخبوي (ليس كله) يمنح طلبته الأدوات الفكرية الكفيلة بالمساعدة ليس فقط على الفهم الإستراتيجي الدقيق لآليات اشتغال العالم، ولكنْ أيضا على الإبصار الاستباقي لما سيكون عليه العالم..
المشهد الثالث
لا بد أن القارئ الكريم قد صادف على شاشة التلفاز، منذ مدة، إعلانا لأحد الفاعلين المغاربة في مجال الاتصالات تظهر فيه سيدة فرحة جدا بفوزها ب»سيارة فخمة».. أنا لا أريد هنا التوقف عند هذه الاستيهامات البورجوازية الصغيرة ل»الطبقة المتوسطة» في المغرب.. إن هدفي هو إثارة الانتباه إلى الجملة التي يتلفظ بها طفل صغير يبدو أنه ابن السيدة في آخر الإعلان، وقول فيها بالحرف: «Elle est superbe, la voiture, merci Maroc Telecom».. إنه لأمر مثير حقا أن يتحكم طفل صغير لا يبدو أنه قد تجاوز الخمس أو ست سنوات كل هذا التحكم في اللغة الفرنسية.. لكنْ هذا ليس هو المهم.. إن الأمر المهم في مكان آخر، في ذلك التمييز الأساسي الذي يجب أن نقوم به بين مستويين في التحليل: مستوى التميز اللغوي الذي يُشكّل في حد ذاته أمرا ايجابيا جدا، ومستوى «التميز» الاجتماعي، الذي يقدم التحكم «الفرنسي» في اللغة الفرنسية شرطا أساسيا للانتماء /الفوز بالعالم!.. فنحن نفهم سرا أنه سيكون من العيب بل ومن غير اللائق أن نُعبّر عن فرحة بسيارة فخمة بلغة الدرب والحومة و.. بعبارة أخرى، لا يجب أن نرى في تحكم طفلنا الصغير في اللغة الفرنسية مجردَ أمر بداغوجي يجب أن نسعد له. لا، إن الأمور، منظورا إليها من زاوية التحليل التاريخي -الهيغيلي للأشياء «العادية» للحياة هي أعقد من ذلك بكثير وإلا كيف نفسر ذلك السلوك الاجتماعي والذهني لكثير من «المغاربة» أصبحوا يعيشون أمورهم الكبرى والصغرى داخل أسوار فضاء لغوي -اجتماعي مفصول تماما عن مغرب كل «الآخرين» من كل نوع؟ أليس هؤلاء قد خرجوا جميعا ذات يوم من مدرستهم النخبوية الخاصة وركبوا سيارة مصفحة ولُقِّنوا في طريقهم لغة /اجتماع الانفصال عن البشر والعالم؟!..

المساء

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة